قالت الهيئة العامة للضرائب والرسوم إن الجمعية الحرفيّة للصياغة وصنع المجوهرات بدمشق قد تنصّلت من تسديد رسوم الإنفاق الاستهلاكي المستحقة لهيئة الضرائب بموجب اتفاق تمّ العمل به حتى ٣٠/٠٦/٢٠١٨، مع تعديل الرسم الشهري المتفق عليه كل ستة أشهر، إلا أن الجمعية حاولت في الفترة الأخيرة استخدام كل الوسائل من أجل عدم تسديد المستحق لهيئة الضرائب والرسوم.
وهذا الخلاف بدأ يَرشَح إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ناقلًا عن الطرفين تصريحات مبهمة، لا توضّح جوهر الخلاف بينهما، ولا حتى تأثيره على الدولة السورية والسوريين عامة، لذا أردنا لهذه المقالة أن تحاول إحاطة القارئ بأكبر قدر ممكن من المعلومات والتفاصيل حول هذا الموضوع.
رسم الإنفاق الاستهلاكي
تمّ فرض رسم الإنفاق الاستهلاكي على مبيعات الذهب بموجب أحكام المرسوم التشريعي رقم ١٨/ لعام ١٩٨٧، وبمعدل قدره (١٠%) ثم صدر المرسوم التشريعي رقم ٦١/ لعام ٢٠٠٤ القاضي باستيفاء رسم الإنفاق الاستهلاكي بمعدل ١٠% على الحلي الذهبية الخاصة، ومعدل ١٥% على الحلى الذهبية الأخرى والمجوهرات، وهذه الضريبة بقيت حبيسة الأوراق الرسمية لوزارة المالية، فلم يتمّ جبايتها لعدة أسباب منها فساد الجباة وتلقيهم الرشوة، وتهرّب التجار من تحصيلها من زبائنهم الملزمين بدفعها؛ وذلك كخدمة مجانية لهم؛ لتشجيعهم على الشراء، وأحيانا مقابل دفع الزبائن رسومًا بسيطة للتاجر لا تصل لمقدار الضريبة المتوجبة عليهم، إضافة للتهرّب الضريبي للتاجر، والذي كان يتم على مستوى الدولة ككل.
وبعدها صدر المرسوم التشريعي رقم/١١/ لعام ٢٠١٥، الذي خفض رسم الإنفاق الاستهلاكي ٥% بهدف التشجيع على الالتزام بدفعه، لكنه لم يُنفّذ بسبب اعتراض الصّاغة عليه؛ نتيجة إصابة السوق بالركود. هذا أدى إلى وضع آلية بديلة، بحيث يتم تقدير الضريبة على كل صائغ على حدة، لتعود وزارة المالية إلى تفعيل ضريبة الرسم الاستهلاكي خلال العام الجاري، فارضة ٥.٧٥% على كل غرام ذهب، شاملًا الرسم المالي، وإعادة الإعمار، وقد جاء هذا (بحسب تصريح الوزارة) نتيجة فشل مفاوضات من جمعيات الصّاغة لأجل الحصول على الضريبة. ويتم استيفاء ضريبة الرسم الاستهلاكي الجديدة من قبل عناصر من الدوائر المالية الذين يتواجدون عند الوسم من أجل بيان كمية الذهب المدموغ في الجمعيات المعتمدة، وبالتالي استيفاء الرسم.
سبب الضريبة
لماذا هذا الاهتمام بهذه الضريبة الآن؟ ولماذا يرفض التجار دفعها طالما أنهم لن يدفعوها من أرباحهم؟
توسّع نشاط هذا القطاع خلال السنوات الثماني السابقة، مستفيدًا من الاضطرابات في سعر الدولار، وتوقّف عجلة الاقتصاد في سوريا نتيجة الحرب، فقد غدا الذهب أكثر استقرارًا في سوريا، وملاذًا للادّخار، والحفاظ على قيمة الثروة، والعملة الخفية للتبادل التجاري، حيث يستعمل الدولار الذهبي (الدولار المقيم للأونصة الذهبية) أساسًا في تقييم تسعير الأعمال.
لذلك ليس غريبا أن تتّسم السياسات الاقتصادية للحكومة المرتبطة بهذا القطاع بالمرونة والسرعة، والتغاضي عن الكثير من التعدّيات في جوانبه؛ للمحافظة على الحياة التجارية في سوريا، وإن كانت بالحد الأدنى.
فقد سُمح باستيراد الذهب منذ العام ٢٠١٤ برسوم لا تتعدى ١٠٠ دولار على الكيلو غرام منه، وبتمويل من القطع الأجنبي لدى المصرف المركزي، كما سمح بتصديره، وقد استخدم تصدير الذهب كطريقة لتهريب الأموال المضمونة إلى الخارج، وطريقة لسداد الالتزامات المالية على التجار، والتي كانت تعاني من الضغط لإيجاد الدولار، وارتفاع تكاليف تحويله، حيث أن القرار سَمح بتصدير الذهب مع تعهد بإعادته. كان الضامن عبارة عن تعهّدٍ كتابيّ قبل التصدير، ودفع تأمين ٥% فقط من قيمة المواد المصدرة! وهذه النسبة هي أقل حتى من تكاليف الحوالة المالية العادية بين المحافظات السورية نفسها، وخاصة إذا عرفنا أن أكثر سوق تم تصدير الذهب إليه هو الإمارات.
كان لهذا التساهل في سوق الذهب ما يبرره، بحسب النظام، فقد كان الذهب يدفع بالناس إلى ضخّ مدخراتهم بهذا السوق مقابل الحصول عليه للحفاظ على قيمة المدخرات. وبالتالي كان السوق يحصل على السيولة اللازمة، سواء من العملة السورية أو الدولار، وخاصة أن السوق في تلك الفترة عانى انكماشاً بسبب انخفاض السيولة فيه، وهذه الزيادة في الكتلة النقدية مضمونة القيمة باعتبار أن المعادن الثمينة تدعم وضع الاحتياطيّات النقدية.
لكن نتيجة ضعف سيطرة النظام على السوق، وانتشار الفوضى بالسلاح، والجهات المتداخلة في الشأن الاقتصادي؛ كلّ ذلك جعل الذهب وما يمثله من قيمة خارج سيطرة حكومة النظام، ولكن يبدو أنه مع اقتراب إعلان النظام عن سيطرته على سوريا ومنافذها الحدودية فالأمر يتطلب منه ضبط السوق من خلال السيولة (وهي التي جفّت بحسب تعبير صندوق النقد الدولي) مرورًا بإعادة تشكيل الاحتياطيات النقدية التي يشكّل الذهب عمودها الفقري، إلى إعادة الاعتراف بالعملة السورية كوسيلة للتبادل الداخلي، أو الخارجي.
لماذا كل هذه المقاومة لضريبة ٥.٧٥%؟
تشهد علاقة الود بين حكومة النظام وقطاع الذهب (بمستورديه، ومصدّريه، ومستهلكيه، وصاغته) إشكالًا بعد فرض رسم الإنفاق الاستهلاكي على دمغة الذهب بنسبة ٥.٧٥%.
حيث التعليمات الجديدة تقوم على استيفاء الضريبة عند الوسم من قبل الجباة، ومن الصّاغة مباشرة، والذين يُترك لهم الخيار بعد ذلك لجبايتها من الزبائن أو لا! والجباة عددهم اثنان لكل جمعية من الجمعيات الثلاث (دمشق، وحلب، وحماة): يعملون فقط ٤ أيام بدل ٦ أيام والتي كانت متوفرة من قبل للجمعيات للوسم؛ مما يعني ضغطًا قد لا يؤدي لوسم كافة الكمية التي يطلبها السوق، وهذا يعني ضغطًا على السوق من الناحية التقنية، خاصة إذا علمنا أنّ هناك ٢٤٠٠ حرفيٍّ فقط في دمشق.
أما من الناحية العملية فإن الرسم ٥.٧٥% يعني أن كل كيلو غرام من الذهب سيكون عليه ضريبة بقيمة ٩٠٠ ألف ليرة سورية، أي ٢٠٤٦ دولاراً، على أساس أنّ سعر الدولار ٤٤٠ ليرة سورية، فالمواطن كان يدفع حوالي ٣٠٠ ليرة سورية عن كل غرام ذهب، ومع تطبيق نسبة رسم الإنفاق الاستهلاكي الجديد سيرتفع المبلغ إلى قرابة ٩٠٠ ليرة سورية.
السوق وفرض الأمر الواقع
وهذا الأمر يُفقِد الذهب بريقه كعملة بديلة بتسعير الأعمال؛ وبالتالي دخول هذه الأسواق في حالة فوضى جديدة، كما حدث عامي ٢٠١٢-٢٠١٣ إضافة إلى أن الذهب سيتم تهريبه إلى الخارج، وليس الذهب فقط، بل الحرفيّين أيضًا، الذين يُتوقَّع أن تغلق أعمالهم، كما سيزيد الطلب على الدولار من جديد؛ ليرتفع سعره، مما يعني أنّ تكلفة الحياة في سوريا أو إعمارها ستزيد.
رفضت السوق فرض الحكومة عليها لرسم إنفاق ٥.٧٥%، حيث بدأ الرد بإعلان الصّاغة بأن عمليات البيع في السوق قد توقفت نهائيًا، والمبيعات وصلت للصفر؛ نتيجة رسم الإنفاق، بذريعة توقُّف الطلب، أما خطوة التصعيد التالية فكانت إعلان الصّاغة على لسان رئيس الجمعية غسّان جزماتي بأن الجمعية قد توقّفت بشكل شبه كامل عن دمغ أي قطعة ذهبية؛ وذلك لأن السوق قد فرضت أمرًا واقعًا جديدًا، حيث أصبح في سوق الذهب سعران: سعر رسمي مع رسم الإنفاق الاستهلاكي، وسعر سوق أخفض منه.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الصّاغة لا يقومون بعمليات الدمغ؛ لرفضهم دفع الرسم الجديد، وبالتالي فإنهم يبيعون ذهبًا بشكل غير رسمي، ودون أن يدفعوا رسم الإنفاق، أي بطريقة غير شرعية عملياً (احتيالاً)؛ لتُوْلد سوق سوداء للذهب، مما يعني التهرب الضريبي، كدمغ سلسلة ذهبية تزن ٣ غرامات ونقل القفل فيما بعد إلى قطع ذهبية ذات أوزان أكبر، واعتماد الصّاغة على شراء الذهب المدموغ سابقا.
كل هذا يعني أنّ خطة حكومة النظام فشلت في جباية نقدية تحسّن من قدرتها على تمويل الميزانية العامة للحكومة، من جهة، أو المساهمة في إعادة الإعمار من جهة أخرى، على اعتبار أن حجم الجباية المتوقع من دمشق وحدها يقدّر بحوالى ٢٠٧٣.٦٠٠ مليون ليرة، لكن الحقيقة أن التهرب كان قد بدأ منذ الإعلان عن فرض الضريبة، أمّا الحكومة فقد ردّت على لسان وزير ماليّتها مؤكدة “استمرار فرض رسم الإنفاق الاستهلاكي.”
يذكر أنّ وزارة المالية لم تستشر البنك المركزي المسؤول عن السياسات النقدية، ولا هو صرّح عن موقفه من الضريبة، وكأنّ البلد باتت رهينة المواقف الفردية، وهذا الأمر لن يشجّع المستثمرين في الدخول في عملية إعادة الإعمار التي أَعتقدُ أنها ستطول في ضوء تخبّطات عشوائية، حتى مساهمة الذهب في السوق النقدية ستتوقف، وهي التي تعاني الآن من انكماشٍ حادٍّ بعد أن فقدت أهمّ مورد لها من العملات التي تأتي من المنظمات الإغاثية للمعارضة.