ضياء عودة | مراد عبد الجليل
أربع ساعات أو أقل كانت كفيلة بأن ينتقل المسافر خلالها من مدينة دمشق إلى حلب قبل عام 2011، باستخدام حافلات السفر، بينما استدعت مسافة الـ 350 كيلومترًا بين المدينتين حوالي ثلاث ساعات فقط، للمسافرين في مركبات صغيرة.
الانتقال بين عاصمتي سوريا، السياسية والاقتصادية، وبين جنوبها وشمالها، كان يقتضي المرور عبر الأوتوستراد “M5″، الذي أغلق بعد العام 2012، إثر سيطرة فصائل المعارضة على قرى محاذية للطريق في ريف إدلب
في الوقت ذاته، كانت كثير من الطرق الحيوية تتعطل في سوريا، لتصبح الحركة بين المحافظات أمرًا عسيرًا، يتطلب قطع طرق فرعية وزراعية في كثير من الأحيان.
ولم يقتصر الضرر في ذلك على حركة المسافرين، إذ انعكس على حركة التجارة الداخلية والخارجية وعبور البضائع والمواد الأولية في سوريا، خاصة بعد إغلاق أغلب المنافذ الحدودية البرية، لتصبح سوريا خريطة مغلقة مليئة بالحدود الداخلية.
اليوم، ومع التقدم العسكري الذي حققته قوات النظام على الأرض، تبرز قضيّة الطرق البرية السورية، كملف سيادي، تمرّ من خلاله الاستثمارات الدولية في سوريا، تمهيدًا لمرحلة “إعادة الإعمار”، التي يريد لها النظام السوري، أن تسير وفق وجهة نظره.
وتأخذ الطرق البرية اهتمامًا أكبر من ذي قبل، مع تهافت حلفاء النظام على حجز أدوار رئيسية في قافلة إعادة الإعمار، والبدء بخطط وعقود استثمارية في قطاعات محلية عدة.
ووفق ذلك، أعلنت حكومة النظام في تموز الماضي عن قرارات تتعلق بتعديل تصنيف مجموعة من الطرقات في سوريا، وسط الحديث عن الدفع بمشاريع استثمارية في الطرقات البرية، ذات الأثر الاقتصادي الكبير.
يناقش هذا الملف القرارات الحكومية السورية الأخيرة فيما يخص الطرق البرية، والهدف من ورائها، ودورها في جذب استثمارات إعادة الإعمار، كما يسلط الضوء على واقعها الإنشائي وأهميتها على المستويين، المحلي والخارجي.
لا يمكن أن تكون الطرق سالكة نحو الاستثمارات الأجنبية في سوريا من وجهة نظر النظام السوري، بالاعتماد على إبرام العقود وتوقيع الاتفاقيات الاقتصادية فقط، دون التأسيس على الأرض.
ذلك ما يمكن اعتباره القاعدة الأساسية التي ستتيح ترجمة الاتفاقيات والعقود مع الدول الأخرى، وخاصة اللاعبة في الملف السوري على أرض الواقع، والبدء بتنفيذ بنودها بشكل تدريجي.
وفي ظل العجز الاقتصادي لحكومة النظام، تعمد إلى تحركات وخطوات من شأنها جذب الاستثمارات الأجنبية، التي ستتولى المهام المتعلقة بإعادة الإعمار وتنفيذ المشاريع الاستراتيجية، بغض النظر عن المقابل.
من بين الخطوات التي أقدم عليها النظام السوري، حديثه عن بدء تأهيل شبكة الطرق البرية على الأرض، وخاصة الرئيسية، التي تربط المحافظات السورية مع بعضها، إلى جانب الطرق المحلية، التي عمل على تعديل تصنيف 17 طريقًا منها إلى طرق مركزية، ضمن شبكة تمتد ما بين حلب وطرطوس واللاذقية، وصولًا إلى الريف الشرقي لحمص والجنوب.
تعديل التصنيف جاء، في 10 من آب 2019، بموجب أحكام القانون 26 لعام 2006 المتعلق بشؤون تصنيف الطرق العامة وحمايتها، وبناء على اقتراح وزير النقل في حكومة النظام السوري، علي حمود، الذي سبق أن أعلن عن وجود خطة مستقبلية لتنفيذ طرق برية مأجورة، تفرض الحكومة عليها رسومًا من أجل تأمين الدخل اللازم، للمحافظة على حالة الطرق، ومواصلة عمليات صيانتها وتحسينها.
وتحدّث حمود، في كانون الثاني 2019، لصحيفة “البعث” الحكومية، عن وجود مشاريع لبناء الطرق سيجري العمل عليها، مخصصة لمحوري شمال جنوب، وجنوب غرب، وسيتم استثمارها وفق مبدأ “BOT”، الذي يسمح للشركة المستثمرة بعد استكمال بناء الطريق وتشغيله، أن تستفيد من عائدات التشغيل لمدة متفق عليها، تسلّمهُ بعدها للدولة.
يندرج تعديل تصنيف الطرق المحلية إلى مركزية، ضمن عمليات التأهيل التي تحدثت عنها وزارة النقل في حكومة النظام السوري، والتي لا ينطلق العمل بها من عمليات الإصلاح والصيانة فقط، بل يمتد إلى أهداف بعيدة وأساسية ترتبط بجذب المستثمرين والشركات الأجنبية.
وهو ما يحقق هدفين بضربة واحدة من جانب النظام السوري، الأول هو التخلص من العبء المادي للعملية، والآخر هو الحصول على عائدات مالية ورسوم بعد إتمام التأهيل بشكل كامل، ومد الطرقات بتصنيفاتها الجديدة.
من بين الطرقات التي حددتها وزارة النقل لتعديل تصنيفها، طريق أثريا- خناصر- حلب، السلمية- المخرم الفوقاني- الفرقلس، عقدة حميميم- مطار حميميم، صلخد- بكا- دوار المفطرة، طرطوس- بغمليخ- وادي العيون.
ينطلق تعديل تصنيف الطرق من محلية إلى مركزية، من ثلاثة أهداف، حددها المحلل الاقتصادي، يونس الكريم، في حديث لعنب بلدي.
الهدف الأول، بحسب الكريم، هو رفع المستوى العام لسرعة للسيارات، أي أكثر من 90 كيلومترًا في الساعة، ما يحقق جغرافية الوصل إلى دول العالم الأخرى، وبالتالي الوصول إلى المياه الدافئة (البحر المتوسط).
ويضيف الكريم أن الهدف الثاني الذي تتطلع إليه حكومة النظام السوري، هو وضع خريطة لإعادة خصخصة قطاع الطرقات وفرض ضرائب، سواء من الدولة أو القطاع الخاص على العابرين والمستخدمين.
وإضافة إلى ما سبق، يوضح الكريم أن النظام السوري يريد من تعديل التصنيف جذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة أن الجانبين الإيراني والروسي مهتمان بالأمر.
توجه النظام السوري إلى خصخصة الطرق في سوريا ليس جديدًا، بل يعود إلى عام 2001، حين أبرت الحكومة السورية عقدًا مع شركة الخرافي الكويتية لتنفيذ مشاريع مد طرق، بينها الطريق الذي يربط مدينة أريحا بريف إدلب مع مدينة اللاذقية الساحلية، وطريق دير الزور- الحسكة.
وفي تقرير لصحيفة “القبس” الكويتية، منشور في أيار 2006، ذكرت أن “الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية” أسهم في تمويل مشروع طريق أريحا- اللاذقية الذي يهدف إلى ربط مناطق الإنتاج في سوريا بمناطق التصدير، عن طريق قرض قدمه الصندوق للحكومة السورية بقيمة 15 مليون دينار كويتي.
لا يمكن عرض تأهيل الطريق في سوريا للاستثمار أمام الشركات الأجنبية في حال بقاء الصفة “المحلية”، بل يجب تعديل تصنيفه إلى مركزي يربط المحافظات ببعضها، بحسب ما يقول مهندس الطرقات السوري، عبد الجبار كيالي.
ويضيف كيالي في حديثه ، “الطريق إذا كان له صفة محلية لا يمكن أن يدخل في مجال الاستثمار، بل يجب أن يكون تجاريًا أو يربط المحافظات مع بعضها”، مؤكدًا أن تعديل تصنيف الطريق إلى مركزي يجعل إمكانية عرضه للاستثمار الدولي كبيرة.
وبحسب كيالي فإن الطرق المركزية تختلف معاييرها عن الطرق المحلية، من حيث أخذ المنحنيات الشاقولية والأفقية والإشارات المرورية والرسوم، إضافة إلى عدة عوامل مرورية أخرى.
وتحتاج الطرق المركزية إلى صيانة دورية، بحسب المهندس، مشيرًا إلى تحديات كبيرة تعترض عمل حكومة النظام السوري في حال اتجاهها لإعادة التأهيل، بينها تأمين السائل الزفتي، الذي كانت تنتجه مصفاتا حمص وبانياس سابقًا.
ويقول كيالي إن دمشق وريفها تعتمدان بشكل أساسي على مجبل واحد فقط للسائل الزفتي، والحاجة المتبقية يتم الحصول عليها من البرك القديمة الموجودة في محيط المصافي النفطية، وقسم آخر عبر الاستيراد، وهو أمر تعترضه العقوبات المفروضة من أمريكا والاتحاد الأوروبي.
ويرى كيالي أن إعادة تأهيل الطرق في سوريا وتعديل تصنيف الطرقات من محلية إلى مركزية، يحتاج إلى شركات أجنبية تدخل بعقود استثمارية لإنجاز المشاريع.
ويتوافق حديث المهندس مع رأي المحلل الاقتصادي يونس الكريم حول أهداف النظام السوري من تعديل تصنيف الطرق المحلية إلى مركزية، إذ يربط كلاهما الأمر بمحاولة جذب الاستثمارات الأجنبية.
بلغ طول الشبكة الطرقية المركزية في سوريا 8280.3 كيلومتر في عام 2018، بعد أن كانت 7074 كيلومترًا في عام 2006، بحسب موقع وزارة النقل في حكومة النظام السوري.
ووفق القانون 26 لعام 2006 (قانون تصنيف الطرق العامة وحمايتها)، فإن الطرق العامة في سوريا تصنف حسب وظيفتها والجهات المسؤولة عنها إلى أربعة أصناف.
الأول شبكة الطرق المركزية (السريعة)، وتشمل الطرق الدولية التي تربط سوريا بالدول المجاورة، والطرق الرئيسية التي تصل بين مراكز المحافظات اتصالًا رئيسيًا، إضافة إلى الطرق ذات الأهمية الخاصة والطرق الحدودية مع الدول المجاورة، وطرق التخديم وهي الطرق التي تخدم الطرق الدولية والرئيسية.
أما الصنف الثاني فهو شبكة الطرق المحلية، التي تشمل الطرق التي تصل مراكز المحافظات بمراكز المدن والمناطق التابعة لها، والطرق التي تصل مراكز المدن بالمناطق والنواحي والقرى.
في حين يضم الصنف الثالث شبكة الطرق الزراعية والري، وهي الطرق المزفتة أو الترابية التي تخدم الأراضي الزراعية والمنشآت المائية، والصنف الرابع شبكة الطرق السياحية التي تخدم المناطق السياحية والمواقع الأثرية.
وتتسم الطرقات في سوريا بـ “بنية ضعيفة من ناحية الإنشاء والبناء بسبب اللامسوؤلية في العمل وعدم الرقابة وانعدام الحوكمة من قبل الإدارات المتخصصة وانتشار الفساد الإداري”، بحسب دراسة حول قطاع النقل والمواصلات والطرق لـ “مجموعة عمل اقتصاد سوريا”، نشرتها عام 2013.
الدراسة أكدت أن الطرق السورية تشوبها عيوب فنية هندسية وإنشائية، بسبب تسليم المشروع من المقاول إلى صاحبه دون فحص جسم الطريق وطبقات الرصف، ودون التأكد من تحقيق شروط الإنشاء وفق المواصفات المطلوبة والمعايير الدولية.
“قيمة لا يمكن التخلي عنها”
خلال سنوات الحرب، وإلى جانب المعارك الدائرة بين قوات النظام والفصائل للسيطرة على مدن استراتيجية مثل حلب، برز نوع آخر من المعارك يندرج تحت مسمى “حرب الطرقات”، إذ حاول كل طرف من أطراف الصراع السيطرة على طرق استراتيجية بهدف توسيع سيطرته.
النظام السوري، ولأهمية قطاع الطرقات بالنسبة له، ركز اهتمامه أكثر على السيطرة على الطرق الاستراتيجية وحمايتها والمحافظة على سيطرته عليها، وهو ما أكد عليه وزير النقل في حكومة النظام السوري، علي حمود، في مقابلة مع وكالة “سبوتنيك” الروسية في تشرين الثاني من العام الماضي.
وقال حمود حينها إن “نظرة الحكومة كانت تتركز على الطرق في سوريا وحمايتها وصيانتها والحفاظ عليها، إذ إن قيمة الطرق في سوريا تبلغ تريليوني ليرة سورية ولا يمكن التخلي عن هذه القيمة الكبيرة”.
وسيطرت قوات النظام، خلال العامين الماضيين، على معظم الطرقات الدولية الاستراتيجية في سوريا، مثل أوتوستراد دمشق- درعا الذي يربط سوريا بالأردن ودول الخليج.
إلا أن أبرز طريقين في سوريا لا يزالان خارج سيطرته بسبب مرورهما بمنطقة إدلب، الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية، وهما أوتوستراد حلب- اللاذقية (M4) البالغ طوله حوالي 186 كيلومترًا، وأوتوستراد حلب- حماة (M5) البالغ طوله 146 كيلومترًا، وهو جزء من طريق مركزي يصل إلى دمشق بطول 355 كيلومترًا، بحسب رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا، أسامة القاضي، الذي أكد لعنب بلدي أن الطريقين يمثلان شريانين بريين مهمين لمرور البضائع والترانزيت، وممرين يصلان الشمال السوري بالجنوب.
منفعة مادية للنظام
إلى جانب المصلحة العسكرية والسياسية للنظام السوري من السيطرة على “M4” و”M5″، فإنهما يحققان منفعة اقتصادية كبيرة، وخاصة طريق دمشق- حلب، الذي يعتبر شريانًا رئيسيًا يربط العاصمة السياسية (دمشق) والمنطقة الجنوبية، بالشمال والعاصمة الاقتصادية (حلب).
وتنعكس إعادة ربط الشمال بالجنوب بفوائد اقتصادية لحكومة النظام السوري، إضافة إلى منفعة كبيرة بالنسبة للمواطنين، تكمن في خفض أسعار المواد الغذائية والبضائع بسبب سهولة نقلها بين دمشق وحلب، بعدما كانت تصل عن طريق أثريا- خناصر “غير الآمن” الذي يصل حلب بحماة ثم حمص ودمشق.
في حين أكد وزير النقل في حكومة النظام، علي حمود، في مقابلة مع “سبوتنيك”، على أهمية الطريقين، وقال إنهما “من أهم الطرق التي نحتاج أن تعود إلى الاستثمار بشكل جيد لأهمية حلب الاقتصادية ودورها في إعادة الاعمار، ولأهمية اللاذقية كمرفأ وبالتالي نقل البضائع من الدول الأخرى باتجاه إعادة إعمار سوريا والعراق”.
وللأهمية الكبيرة، دخل الطريقان ضمن المفاوضات والاتفاقيات بين الدول الضامنة، روسيا وتركيا، في “اتفاق سوتشي” بين الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في أيلول العام الماضي.
وبحسب القاضي، ورد ضمن بنود الاتفاق الروسي- التركي، استعادة حركة الترانزيت عبر الطريقين بحلول نهاية 2018، ولكن حتى الآن لم يتم فتح الطريقين، معتبرًا أنها “رسالة سياسية لفرض تطبيق الاتفاق، لكن مضمونه اقتصادي وسيادي بالنسبة لروسيا والنظام السوري”.