قال بشار الأسد ما قال لكن لماذا أطلّ اليوم، اليوم بالذات، ليقول ما قال؟ صدفة؟ “الأحداث ليست من باب الصدفة”، هذا قولّ أطلقه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ذات يوم. وتجربتُنا اللبنانية مع النظام السوري تشي أن ثمة ما يدور في بال الأسد . فماذا فيه بحسب معلومات وتحاليل رجال أعمال واقتصاد سوريين؟
وكأن بشار الأسد، الرئيس السوري، إستفاق من نومه على كابوس خروج قواته المذلّ من لبنان في العام 2005، فقرر أن يُصوّب ضربات ارتدادية من “باب المصارف”، ظناً منه أن لبنان لا يزال يمثّل “الحيط الواطي” الذي يسهل تسلقه وتخطّيه ساعة يشاء.
الخبير الإقتصادي السوري يونس الكريم، إبن القامشلي، الذي يعيش اليوم في فرنسا، فتح باب النقاش واسعاً مع شخصيات سورية ولبنانية. وانطلق الحوار حول خلفية ما قاله الأسد: “هناك أسباب كثيرة، أولها، تعقّد الوضع الاقتصادي السوري جداً وانعدام كثير من السبل التي كان النظام يناور فيها، وذلك مع تشديد العقوبات على ايران ودخول الأسد في شكل أو في آخر في خلافات مع ايران وروسيا وغيرهما، غير الراضية عن أدائه. إضافة الى محاولة الأسد اعادة تعويم نفسه وترتيب البيت الاقتصادي وبعث رسائل في كل الإتجاهات بأنه ليس سبب الأزمة الاقتصادية، وبأنه يعمل على تنظيف الساحة من أمراء الحرب وإرساء سلام لا أحد غيره يحميه”.
في الحقيقة، هذا الإتهام الذي وجهه بشار الأسد الى المصارف اللبنانية ليس جديداً، فقد تكلم به كثير من السوريين، لكن جديده أنه صدر اليوم على لسان الأسد نفسه “وهو أتى مع محاولة فرنسا الضغط على “حزب الله” لاحتوائه واحتواء ايران بخطتها، اثر زيارة الرئيس ايمانويل ماكرون الى لبنان. يحاول الأسد الدخول في هذه الصفقة لاعباً دور الضامن في هذا الاحتواء. وفي هذا الإطار هناك ملفات كثيرة بدأ التداول بها أخيراً في سوريا ولا سيما منها ملف الأزمة اللبنانية النقدية والأزمة المالية اللبنانية والخدماتية، خصوصاً بعد تفجير مرفأ بيروت، فسوريا تتأثر كما لبنان. ويُحكى في كواليس السوريين عن تورط المصارف اللبنانية مع النظام السوري في نقطتين:
أولاً، منحت المصارف اللبنانية سوريا اعتمادات مستندية كبيرة من خلال تجار محسوبين على “حزب الله” والنظام بضمانات واهية.
ثانياً، هي اعتمدت شراكة مع شركات الصيرفة اللبنانية للمضاربة على الليرة السورية، حيث أنه طوال فترة الثورة السورية كان المصرف المركزي السوري يقوم بسحب الدولار من السوق، وحين تنهار الليرة السورية يتدخل لشرائها لتعود وترتفع مقابل الدولار، وهكذا دواليك، فيستفيد من هذه اللعبة صعوداً وهبوطاً. واستطاع النظام السوري الحصول على مئات ملايين الدولارات من السوق اللبناني، من صيارفة شاركوا في هذه اللعبة، ما ساهم في اختفاء الدولار من لبنان. والآن، يحاول النظام السوري ان يستبق اي كلام حول فتح ملفات الفساد في المصارف اللبنانية وشركات الصيرفة اللبنانية المتورط هو نفسه فيها. فنراه يحاول تحميل المصارف اللبنانية أزمة تدهور العملة السورية، على قاعدة “ضربني وبكى وسبقني واشتكى”، للقول بوجود خيانة وتواطؤ من رجال أعمال سوريين عملوا على تهريب أموالهم الى لبنان، وبالتالي استباق اي اشارة مباشرة الى تورطه باللعبة. هو يريد تحميل رجال اعمال امثال راتب الشلاح واعضاء غرفة التجارة المالية على اعتبار انهم أخرجوا اموالهم من سوريا الى لبنان فتبخرت.
ثالثاً، سيحاول النظام السوري في الأيام المقبلة الضغط على المصارف اللبنانية لاسترداد جزء من الأموال السورية المحتجزة، مميزاً بين الإعتمادات المستندية وبين الأموال المودعة في المصارف. سيحاول النظام السوري الضغط على لبنان لفك القيود عبر تأليب الشارع المحلي والقول ان لبنان هو سبب ما يُصيب السوريين، وبالتالي سيطالب في اتخاذ عقوبات تجاه لبنان إذا لم يرفع القيود عن بعض الحسابات المالية. وهو بذلك يجعل من لبنان شمّاعة لما يحدث، وما قد يحدث بعد، في سوريا. وهذه سياسة أسدية قديمة – جديدة تعتمد الهروب الى الأمام وتهيئة الداخل السوري لإجراءات تقشف جديدة ستطرأ على الاقتصاد السوري قريباً. إذاً، أراد بشار الأسد أن يصيب أكثر من عصفور بما قال آملاً أن يخرج من كل هذه المسائل كما الشعرة من العجينة.
هل علينا إذاً أن نتوقع شوطاً آخر، أو لنقل سهماً آخر، من الرئيس السوري؟ يتحدث الخبير الإقتصادي يونس الكريم عن أن “بشار الأسد يريد الآن أكثر من أي أوان ترتيب البيت الإقتصادي السوري الداخلي المنهك بالعقوبات، وعبره البيت السياسي، من بوابة لبنان والقول إن على لبنان إما إعادة فتح الإعتمادات المستندية التي تخوله الإستيراد مجدداً (خصوصاً بعدما ارتفعت الأصوات في لبنان لوقف أعمال التهريب من لبنان الى سوريا)، وإما إعادة الأموال المودعة الى السوريين لاستخدامها مباشرة. يُذكر أن لسوريا أموالاً محتجزة لصالح روسيا في بنك “غاز بروم” الروسي الذي يتخذ من بيروت مقراً له، قيمتها 400 مليون دولار منذ العام 2011. يحاول النظام السوري حالياً رفع هذه الإجراءات بما يخص الأموال المجمدة بسبب العقوبات الدولية واسترجاعها.
لا رقم محدداً لدى السوريين حول مجموع الودائع السورية في المصارف اللبنانية. وقصة انتقال هذه الودائع يتحمّلها النظام السوري نفسه.
ويتحدث الخبير الإقتصادي عن أن النظام السوري طالما منع التجار من فتح إعتمادات مستندية كبيرة بالدولار في المصارف السورية، ناهيك أن البنوك الخاصة هناك، التي تتعامل بطريقة الوسيط مع الخارج، تخاف كثيراً من العقوبات الدولية. والأهم أن البنوك الخاصة والحكومية السورية موضوعة في دائرة الشك دائماً بسبب العقوبات، كما أن القرارات تتخذ في سوريا في شكل ارتجالي، إما عن أمراء الحرب أو الحكومة، وسهل جداً الحجز على الأموال ووضع إشارة بتهمة الإرهاب. كل هذا منع رجال الأعمال السوريين من فتح إعتمادات في سوريا. لذا سارع هؤلاء الى لبنان، وعملت المصارف اللبنانية على شراء السلع وبيعها للنظام السوري بأرباح تتجاوز الضعفين. ومنذ بداية العام 2019 امتنع النظام السوري عن السداد ما أوقع الإعتمادات المستندية في مشكلة.
ويشرح الكريم: أهمية هذه الأموال التي يريد النظام استردادها أنها سيولة يمكن إعادة استثمارها في سوريا وشراء الإحتياجات الأساسية بها لسوريا لسنوات مقبلة. وبالعودة الى شهر أيلول من العام 2010 فقد وقّع وزير المال السوري محمد الحسين على إجراءات السماح بتصفية شركات كثيرة لعبد الرحمن العطار وراتب الشلاح وآل الحبال وخلود الحلبي وسامر الفوذ وكثير من الأسماء، ما جعلهم يغادرون سوريا من دون إثارة أي مشاكل. وبعد أشهر اندلعت الأزمة السورية، وهناك من يربط بين خطوة كبار المستثمرين السوريين والثورة السورية.
وهؤلاء اعتمدوا على الصناعة البنكية اللبنانية كمحطة لإدارة اموالهم، خصوصاً لقرب بيروت من العاصمة السورية دمشق، وللتسهيلات التي يتمتع (او كان يتمتع) بها لبنان مع الأوروبيين لجهة الاستيراد والتصدير. هذا الامر جعل الكثير من رجال الأعمال السوريين يقبلون على الجنسية اللبنانية على الرغم من قدرتهم على الحصول على جنسيات دول أخرى. مزايا لبنان جذبت الكثيرين ومنهم هؤلاء.
لطالما اعتبر نظام الأسد لبنان “الحديقة الخلفية” لسوريا وأن انسحاب جيش النظام السوري من لبنان لم يكن أكثر من إعادة انتشار للجيش السوري. واستمرت، ودائماً بحسب المحللين السوريين، القبضة السورية في لبنان قوية. فها هو “حزب الله” يستمر في العمل لصالح نظام الأسد، بالإضافة الى كثير من الموالين اللبنانيين للنظام السوري من كل الطوائف. وهذا ما جعل نظام الأسد يبقي على جزء كبير من امواله واستثماراته في لبنان. نشير هنا الى ان بعض الادارات اللبنانية استلمت طلباً من هذا النظام في شأن أراضٍ يملكها على شواطئ لبنان. ناهيكم ان هذا النظام طالما استخدم لبنان، طوال الأزمة السورية ولا يزال كأداة للاستيراد والتنفس. وهذا ما يمكن استنتاجه من زيادة الواردات اللبنانية ثلاثة أضعاف عن احتياجات الدولة. والتهريب في الاتجاهين دليل آخر على هذا الموضوع. وهناك توسع في الاعتمادات المستندية والقروض الممنوحة الى شخصيات محسوبة على النظام السوري وعلى تجار يعملون على توريد منتجات الى سوريا. كل شيء كان يدور في لبنان مثل الساعة كرمى لعيني الرئيس السوري.
على الرغم من تضارب التقديرات بشأن الأموال السورية المودعة في المصارف اللبنانية لكن الأكيد أن لهذه الأموال مفاعيل مادية ومعنوية لنظامٍ سوري مدمّر، إسوة بنظام لبناني ذاهب الى جهنم، ولسان حال بشار الأسد إذا كانت هناك جهة واحدة، واحدة فقط سيُكتب لها الحياة، فلتكن سوريا الأسد!