قد تكون الاتفاقيات والعقود الاقتصادية التي وقعتها إيران مع حكومة النظام السوري أبرز ما تصدر على صعيد العلاقة المعلنة باستمرار بين الطرفين، خلال السنوات الأربع الماضية. ورغم أنها كثيرة وشملت العديد من القطاعات، إلا أن نقطة “شائكة” ما تزال تعترضها، حسب تصريحات المسؤولين في طهران، وهي أنها ما تزال “برسم المتابعة”.
في العاشر من شهر يوليو / تموز 2022 وفي أحدث تصريح إيراني على هذا الصعيد طالب الرئيس، إبراهيم رئيسي من رأس النظام السوري، بشار الأسد بضرورة تنفيذ الاتفاقيات بين البلدين و”متابعتها بجدية”، مخاطبا إياه بنبرة رددها مسؤولون آخرون قبله، بشكل متواتر وعلى مدى عامين.
وكان ملخّص هذه “النبرة” أن الجانب الإيراني، وبينما وقع عدداً من الاتفاقيات والعقود التجارية والاقتصادية مع حكومة الأسد في سورية، إلا أن “مخرجاتها” ما تزال “بطيئة وضعيفة”، على عكس باقي الدول الفاعلة في الملف، من بينها روسيا وتركيا.
ومنذ تدخلها العلني لدعم نظام الأسد، في عام 2012، توغلت طهران شيئاً فشيئاً في القطاعات السورية، سواء العسكرية أو الأمنية ومن ثم الاقتصادية. لكن وعلى عكس ما عملت عليه على الأرض بالعسكرة والأمن، واجهت مساراً “استثنائياً”، لضمان “حصتها” في الاقتصاد.
وعلى الرغم من أن “توغلها” في هذا القطاع كان علنياً وكبيراً بالصورة العامة، إلا أن مراقبون أشاروا في حديث لهم إلى أن أهدافها لم تصل إلى “النتائج المرجوة”، وذلك ما يرتبط بعدة اعتبارات، ليست وليدة السنوات الـ11 الماضية، بل يعود ذلك إلى ما قبل أحداث الثورة السورية.
“على أكثر من مستوى”
قبل ما طلبه رئيسي من بشار الأسد كان الأخير قد تلقى رسالة مباشرة من وزير الطرق وبناء المدن الإيراني، رستم قاسمي، في يناير / كانون الثاني 2022، تفيد بأن الاتفاقيات الموقعّة، ما تزال أيضاً “برسم المتابعة”.
وكتب قاسمي في تغريدة عبر “تويتر” بعد لقاء الأسد في دمشق، بقوله إن “الاتفاقيات التي تم التوصل إليها مع الأسد يمكن أن توفر فرص عملٍ لشبابنا، والكثير من القيمة المضافة للمستثمرين الإيرانيين”، مختتما حديثه بعبارة: التأخير لم يعد مسموحاً به”.
وقبل قاسمي، وفي أغسطس / آب 2021، قال نائب رئيس غرفة التجارة الإيرانية- السورية، علي أصغر زبرداست إن العلاقات التجارية بين إيران وسورية منخفضة، لكن هناك قدرة على زيادة العلاقات.
وأضاف في مقابلة مع وكالة “أنباء إيلنا” أن “الفوائد الاقتصادية لسورية تذهب لروسيا، وكذلك دول أخرى، بينما علاقاتنا التجارية والاقتصادية مع سوريا “بطيئة”.
وبعد هذه الكلمات قال محمد أمير زاده، نائب رئيس غرفة التجارة الإيرانية، إن “حصتنا من التجارة السورية 3 في المئة، بينما تركيا 30 بالمئة”.
بينما أكد وزير الصناعة الإيراني، رضا فاطمي أمين، قبل زيارته إلى العاصمة السورية، دمشق، مطلع ديسمبر / كانون الأول 2021، أنه “رغم العلاقات الثقافية القوية للغاية، فإن علاقاتنا الاقتصادية مع سورية ضعيفة للغاية وتحتاج إلى التحسين”.
وتلك التصريحات قابلها النظام السوري بتأكيد برسمي صدر لأول مرة في الرابع من شهر ديسمبر 2021، على لسان وزير اقتصاده، سامر الخليل، حيث قال لوكالة “تسنيم” الإيرانية إن “العملية التجارية بين سورية وإيران ليست بالمستوى الذي تنشده دمشق وطهران”، معتبراً أن ما يتطلع له البلدان “هو مستويات أعلى من التبادل التجاري. هذا الموضوع قيد العمل لتطويره”.
وأضاف الخليل أن “قانون الاستثمار السوري الجديد الذي يحمل الرقم 18 يتضمن الكثير من المزايا والتسهيلات الكبيرة في مجال الاستثمار للشركات الإيرانية الراغبة في الاستثمار في قطاعات واسعة ومتعددة”.
لماذا تتوجّس طهران؟
وحتى الآن وبعد 11 عاماً من انطلاقة الثورة السورية، وما تلاها من عمليات عسكرية وانحسار نفوذ قوى مقابل قوى أخرى، بالتوازي مع تدهور الوضع الاقتصادي للبلاد إلى مستويات “كارثية” ما تزال الصورة العامة التي ستكون عليها سورية مستقبلاً “غامضة”، سواء من الناحيتين الأمنية والعسكرية أو السياسية والاقتصادية.
لكن ما بدا خلال السنوات الماضية أن حلفاء نظام الأسد استحوذوا وبالتدريج على مفاصل الاقتصاد السوري، على رأسهم روسيا الحليف الأبرز ومن ثم إيران.
وبمقارنة عمليات الاستحواذ التي أقدم عليها هذين الحليفين، بدا واضحاً، حسب مراقبين، أن موسكو ركّزت في خطواتها على القطاعات الأبرز وذات الإنتاجية العالية، من نفط وموانئ وفوسفات، بينما اتجهت طهران للعب على خط الأسواق الداخلية لسورية من جهة، فيما اتجهت لتثبيت موطئ قدم في قطاع الكهرباء، وبعض القطاعات النفطية. بصورة أقل على ما عملت عليه الأولى.
ويشرح الباحث الاقتصادي في “مركز عمران للدرسات الاستراتيجية”، مناف قومان أن “التوجس الإيراني” الذي بدا ملاحظاً، خلال الفترة الأخيرة “ليس وليد المرحلة، وإنما يعود إلى ما قبل الثورة السورية”.
إذ كانت إيران دائماً تشير إلى أن “العلاقات التجارية مع سورية لا تعبر عن قوة العلاقات السياسية والعسكرية والدبلوماسية، الموجودة بين البلدين”.
ويوضح قومان أن ما سبق يعود لعدة أسباب، أولها ضعف الاقتصادين الإيراني والسوري، والعقوبات على البلدين، وبيئتهما الاستثمارية ضعيفة.
ولا يرى الباحث الاقتصادي أن هناك تنافس بين تركيا وإيران في سورية، على عكس روسيا، إذا يبدو واضحاً التنافس الحاصل للسيطرة على موارد وموانئ وقطاعات اقتصادية بارزة.
وذلك ما يشير إليه الباحث الاقتصادي السوري، الدكتور كرم شعار، إذ يقول إن جذور المشكلة بين سورية وإيران “اقتصادية”، حيث “لا يوحد حوافز للطرفين من أجل الارتباط الاقتصادي بين بعضهما البعض”.
ويقول شعار : “في مجالات مثل النفط من اللافت أن روسيا حصلت على كل التنازلات النفطية في سورية على الأقل، بينما وفي المقابل لم تحصل إيران على شيء!”.
“البلوكات البحرية مقابل الشواطئ السورية هي استثمارات روسية، وكذلك استثمار مرفأ طرطوس ومعمل البتروكياويات وحتى الفوسفات، رغم وجود عقد مع إيران لكن هذا ما تم عليه الآن”، وفق الباحث.
ويضيف أن “الاستثمار الوحيد التي حصلت إيران عليه في الثروات الطبيعية في سورية هو استثمار في البلوك 12 في مدينة البوكمال”، شرقي البلاد.
“فواتير للسداد”
مثّل اندلاع الحرب السورية في 2012، فرصة لإيران لزيادة نفوذها في سورية، وكان هذا مدفوعا بأهمية البلاد “الاستراتيجية”، ودورها في ضمان استمرارية الممر البري من طهران إلى بيروت، ووصولها إلى المياه الدافئة لشواطئ البحر الأبيض المتوسط.
وفي مايو / أيار 2020 وفي تصريح هو الأول من نوعه قال النائب حشمت الله فلاحت بيشه، من لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية إن بلاده أنفقت ما بين 20 ملياراً و30 مليار دولار في سورية لدعم بشار الأسد، مضيفاً: “يجب على إيران أن تستعيد هذه الأموال”.
وتشير وسائل إعلام إيرانية إلى أن أحد أهم نفقات إيران في سورية هو تسليم النفط والمنتجات النفطية إلى قوات الأسد، ويتم ذلك في إطار “حد ائتماني” فتحته إيران، منذ سنوات.
ويتراوح هذا الحد، بين 2-3 مليار دولار في السنة، مع منح حد ائتماني إجمالي يصل إلى 6 مليارات دولار في السنة، بما في ذلك الإمدادات الغذائية والطبية، التي حددها وزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف بنحو 2.5 مليار دولار في السنة.
يوضح الباحث الاقتصادي، كرم شعار أن “الواقع الإيراني الاقتصادي في سورية يكاد يكون معدوماً لسبب رئيسي هو أن التجارة ما بين البلدين لا يمكن فرضها بقرار سياسي”.
ويضيف: “إذ أن الدوافع والحوافز للتجارة بأصلها هي اقتصادية. في حال لم يكن هناك هامش ربح يمكن تحقيقه من خلال التجارة بين البلدين لن تحصل التجارة، مهما أعلن من اتفاقيات”.
والصادرت الإيرانية إلى سورية ليست لها فقط، وإنما لكل دول العالم، وهي في الغالب نفطية أو مواد غذائية، ويتابع شعار: “المواد المذكورة لا يوجد لها سوق في سورية”.
من جانبه يقول الباحث الاقتصادي، مناف قومان إن “الفشل الذريع للتبادل التجاري بين إيران وسورية يعود إلى الضعف الاقتصادي في البلدين، وعدم تنوعه وعدم جودة المنتجات الإيرانية، إضافة إلى عدم قدرتها على المنافسة في كثير من الأحيان. المنتج الإيراني لا يضاهي المنتج السوري”.
كما أن “الاستثمارات الإيرانية التي تدخل إلى سورية لا تستمر في معظمها، بسبب عمليات الفساد”.
ويضيف قومان: “كثير من العقود التي تم توقيعها في الفترة الماضية لا تنفذ. الفساد في الاقتصاد موجود في إيران أيضاً، إذ أن النموذج الاقتصادي الموجود في طهران قائم على العسكرة وتوجيه الموارد نحو الاستثمارات العسكرية”.
“منتج ضعيف وأحلام كبيرة”
ويتراوح حجم التجارة السنوية بين إيران وسورية بين 170 و180 مليون دولار، بحسب تقديرات إيرانية رسمية حديثة، ولكن طهران تأمل بأن “يتضاعف حجم التجارة بين البلدين ثلاث مرات بحلول عام 2022″، وفق تصريحات لمدير الشؤون العربية والإفريقية في منظمة “التنمية التجارية الإيرانية”، فرزاد بيلتين.
وقال بيلتن في تصريح لوكالة أنباء “فارس”، في مارس / آذار 2021 إن المنظمة وضعت خطة لتصدير 400 مليون دولار من السلع إلى سورية، مقابل 100 مليون دولار واردات في سنة 2023، مضيفاً أن ما تبقى من الحجم المستهدف “سيشمل توسع تصدير الخدمات الفنية والهندسية إلى سورية”.
المحلل الاقتصادي السوري، يونس الكريم اعتبر أن “المطالب الإيرانية كبيرة جداً، في مقابل ما تم تحقيقه من عقود رسمية مع حكومة النظام السوري، وذلك اقتصادياً، وخارج نطاق السياسة”.
ولكبر المطالب وعدم فعالية التحقيق، دوراً أساسياً في إظهار حالة “التوجس الحاصلة”، والتي عكستها كلمات المسؤولين الإيرانيين، في أكثر من مناسبة.
وتحدث الكريم أن الحالة المذكورة أيضاً ترتبط بمخاوف طهران من ضعف حصتها في سورية، مقابل ما حازت عليه موسكو، خلال السنوات الماضية، ولاسيما في القطاعات الكبيرة، والمربحة.
ويضيف من جانب آخر أن “النظام السوري لم يستخدم الأموال الإيرانية بشكل اقتصادي لرفع مؤشرات التواجد الإيراني وخاصة في أزمة المحروقات، وهذا الأمر جعل طهران تشعر بأن هذه الأموال تستخدم بشكل فاسد، وبالتالي ستنعكس الأمور عليها بالسلب”.
من جانبه يشير الباحث الاقتصادي، مناف قومان إلى أن “المنتجات الإيرانية الضعيفة التي تدخل سوريا لم يكن لها أي طلب. وبالتالي التاجر السوري لم يعد يرغب بها، ما أدى إلى العزوف عن شرائها”
كما أن المورد الإيراني “عندما يورد بضائعه إلى سورية لا يجد سوقاً لترويج البضائع. وهذه الأسباب إضافة إلى الفساد أسهمت في ضعف التبادل التجاري”.
ويوضح قومان أن “النظام السوري منفتح على التجارة مع إيران، سواء في الثورة أو حتى قبل الثورة، لكن طبيعة المنتج الإيراني الضعيف إلى جانب المستثمر الإيراني الذي لا ينفذ وعوده في الاستثمار، حال دون انفتاح التجارة بشكل كبير بين البلدين”.
هل للنظام دور؟
ولم يصدر من جانب النظام السوري، خلال الفترات الأخيرة، تصريحات إضافية بشأن “ضعف الحركة التجارية مع إيران”، وحالة التوجس الإيرانية، ليقتصر الرد من جانبه عما قاله وزير اقتصاده سامر الخليل، والذي دعا إلى حل المشكلة، بموجب القرار رقم 18.
وصدر القانون في مايو / أيار 2021 بمرسوم من رأس النظام السوري، بشار الأسد، ويتضمن تقديم “تسهيلات” أمام المستثمرين الأجانب والمشاريع الخارجية وإعفائهم من الضرائب والجمارك.
وينص أيضاً على منح المستثمر إعفاءات جمركية وضريبية “غير مسبوقة”، بحيث تُلغى الرسوم الجمركية والمالية عن مستوردات الآلات والتجهيزات، وخطوط الإنتاج، ووسائط النقل الخدمية للمشاريع الحاصلة على ترخيص استثماري.
في حين تُعفى مشاريع الإنتاج الزراعي والحيواني من الضريبة على الأرباح بشكل كلي، إلى جانب إعفاءات ضريبية وجمركية أخرى، وكذلك تُعفى المشاريع التنموية من ضريبة الأرباح بنسبة 75% لمدة عشر سنوات.
و”لا يوجد من قبل النظام قرار بعدم السماح لإيران الدخول إلى السوق السورية”، وفق الباحث قومان “لأن طهران هي من تقرر وتنفذ في أجندة ما، إذ هي التي تجهز العقود، وترسل رسالة لرئيس حكومة النظام لزيارتها وتوقيعها. بينما النظام لا يقرر بل يوقع فقط”.
وتحدث الباحث أن أبرز الاستثمارات الإيرانية في سورية هي الكهرباء.
وستكون طهران مزوداً رئيسياً للشبكة في حلب، بينما تحاول التوسع إلى مدن ثانية.
ويضيف: “في حال استمرت في المسار (إصلاح محطات الكهرباء وتشغيلها وإيصالها للمنازل والمدن الصناعية) قد تسيطر على القطاع بشكل كامل”.
وإلى جانب الكهرباء تستثمر طهران في الفوسفات والزراعة، وكانت قد وقعت عقوداً في القطاعات الخدمية، لكن لا يوجد شي ملموس حتى الآن على الأرض باستثناء قطاع الكهرباء الذي يعد أبزر ما استثمرت فيه، وفق قومان.
من جهته يرى المحلل الاقتصادي، يونس الكريم أن أسباب “فشل” التجارة بين إيران والنظام السوري تعود لأسباب، منها “اختلاط الجانب العسكري بالجانب الاقتصادي والجانب الديني، ومحاولة تطويع الجانب الديني والاقتصادي لخدمة الجانب العسكري، مما جعل الكثير من السوريين ينفرون من هذا الأمر من المؤيدين للنظام”.
وهناك أسباب أخرى تتعلق بـ”عدم نجاح طهران باستقطاب رجال أعمال من الحرس القديم من الأثرياء القدامى بشكل ولاء مطلق، وهذا الأمر ما أربكها، وجعلها تخلق طبقة من التجار الجدد. هؤلاء اصطدموا مع أمراء الحرب الكبار”.
علاوة على ذلك، فإن “اعتماد إيران على تسويق البضائع ذات الجدوى المنخفضة”، كان له دور في تقليص حجم الضخ داخل الأسواق السورية، ويوضح الكريم: “البضائع الإيرانية لم تلق قبولا لدى السوريين”.