اقتصادي – خاص:
تداول خبراء ومستثمرون، عبر منصات التواصل الاجتماعي، دعوات لتخفيض معدلات الفائدة في البنوك، واعتبار رفع الفيدرالي الأمريكي للفائدة بمثابة خطر على استقرار القطاع المصرفي، وتحديداً عقب انهيار بنك “وادي السيلكون” (سيليكون فالي SVB)، علماً أن الطلب بذلك غير علمي، حيث أن رفع الفائدة يهدف لتحسين واقع الاقتصاد الدولي ومنع استمرار تدهوره، الذي قد يؤدي في حال تخفيض الفائدة، إلى زيادة الطلب على الأموال بضوء ركود تضخمي، ما قد يدفع بتلك الأموال إلى البحث عن المضاربة والأصول الأخرى ذات العوائد الكبيرة، الأمر الذي سيقود بدوره إلى كوارث.
ويعتزم الفيدرالي الأمريكي القيام برفع الفائدة الأسبوع القادم، علما أن المركزي الأوربي قد أقدم على رفع الفائدة خمسين نقطة لتصبح ٣.٥%، ما يؤكد عدم صواب الدعوات إلى خفض معدلات الفائدة، وذلك للأسباب التالية:
١_ طبيعة عمل بنك “سيلكون فالي” ونطاقه المختص بشركات التكنولوجية والعملات الرقمية وخاصة الناشئة منها، فالمخاوف عقب إفلاسه، تندرج تحت مسمى “الذعر المصرفي” لا أكثر فالقطاعات التقليدية تتعافى، كما أن الاقتصاد عاد إلى العمل مع تعافي السلاسل التوريد، لكن لابد من التأكيد على أن إفلاسه قد يشكل ضغوطاً على الاقتصاد مع ١٠٠ ألف عاطل عن العمل، من المرجح أن ينتج عن إفلاسه.
٢_ الدعوة إلى خفض معدلات الفائدة، فيه إهمال للجدلية بين أيّهما أفضل: القضاء على التضخم أم الركود؟
ويعود الاختلاف إلى طبيعة النظام الاقتصادي هل هو رأسمالي أم يساري اشتراكي أو مختلط.
حيث تتوافق تلك الدعوات مع التوجه اليساري الذي يرى أولوية في المحاربة للركود عبر التوسع بالإنفاق الحكومي وتخفيض الفوائد، وهذا بطبيعة الحال ممكن عندما لا يعاني الاقتصاد العالمي من التضخم المستمر وارتفاع بمعدلاته بشكل قياسي، علماً أنه في النظام اليساري لا يوجد اقتصاد إنما إدارة موقف.
أما الاقتصاد الرأسمالي، فيولي لمحاربة التضخم ألوية قصوى، على اعتبار أنها تستهلك الثروة، الأمر الذي يقود إلى تبخر الاستثمارات والبطالة والفقر الذي يشكلان عنوان الفوضى.
٣_ جوهر التضخم، فالتضخم يصيب السلع الأساسية ومن ثم سلة أوسع من السلع، والتي يحسبها البنك المركزي بشكل رئيسي، وعادة تسمى بالتضخم الأساسي وهو خالي من السلع المدعومة من الحكومة، أي السلع التي تحدد إدارياً، ويتوسع المعنى ليشمل تلك التي تتميز بالتقلبات الشديدة أما التضخم العام فيشمل الجميع.
فبعد أن يترسخ التضخم (بسلة السلع الموسعة) يصبح هناك ذعر من انخفاض قيمة الثروة، نتيجة انخفاض القوة الشرائية للقاعدة (المواطنين)، فيتجه أصحاب الثروات للبحث عن ملاذات آمنة لثرواتهم، من أجل المحافظة على قيمتها وتحقيق نمو ولو بسيط.
وبما أن انهيار بنك “سيلكون فالي” ترافق مع انهيار بنوك أخرى في الولايات المتحدة التي تتعامل بالعملات الرقمية والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية بالتضخم، وبما أن مؤشرات التجارة الدولية بدأت بالتحسن مع عودة سلاسل التوريد إلى وضعها الطبيعي قبل covid-19، والطلب العالمي على الغذاء والصناعة بارتفاع بشكل متزامن مع فرص حقيقة لإعادة إعمار العديد من الدول الهشة (سواء إعادة الإعمار بعد كوارث الطبيعة أو الحروب)، كل هذا مع تركز الأموال بنطاق التكنولوجيا والعملات الرقمية، كان سيفتح الباب إلى ارتفاع معدلات تضخم بشكل رهيب.
لذا كان لابد من عملية جراحية دقيقة لإعادة توجيه الأموال من الصناعات التكنولوجية وسوق العملات الرقمية، وإعادتها للصناعات التقليدية، ويمكن استشفاف ملامح العمل الجراحي، من الذعر المصرفي الذي حدث مع “بنك سيلكون فالي” الذي لم يكن مبرر أبداً.
٤_ إفلاس البنك يندرج تحت إطار الحرب داخل الولايات المتحدة، فهو من جهة يتسبب بإرباك لسياسات جو بايدن، الذي يقود حملة لاستمرار الدعم لأوكرانيا بالأموال واستمرار حرب الاستنزاف ضد روسيا، كما أنه من جهة ثانية يساهم في إيقاف حملة دونالد ترامب الرئاسية المتصاعدة، على اعتبار أن الإفلاس جاء نتيجة قرار ترامب الرئاسي غير المهني، مثل قانون النمو الاقتصادي والإغاثة التنظيمية وحماية المستهلك الذي وقعه حين كان رئيساً، في مايو 2018، وتم اعتباره تراجعاً كبيراً عن قانون دود-فرانك لإصلاح وول ستريت وحماية المستهلك لعام 2010، حيث خفف القواعد التي يتعين على البنوك الكبرى اتباعها، ورفع حد الأصول “للمؤسسات المالية المهمة” من 50 مليار دولار إلى 250 مليار دولار.
٥_ هو إعلان صريح بأن ما تم توقعه، حول النسخة الجديدة من النظام “نيو رأسمالي” الذي تسيطر فيه الشركات العملاقة الخاصة على الدول، وتصبح هي الدول الجديدة، قد فشل، وبطبيعة الحال الفشل ليس وليد انهيار بنك “وادي السيلكون” فحسب، بل كان الانهيار بمثابة القشة التي أغرقت ذلك التنين، فمع انهيار البنوك، لن يستطيع قطاع الابتكار السحابي استعادة الثقة به، كما أن تصرفات المدراء التنفيذيين لمن كان يعوّل عليهم بقيادة النظام الجديد ، من خلال إدارة تلك الشركات، قد مسهم جنون العظمة، فاختلط عليهم الممكن وغير الممكن وما هو واقعي وما هو سحابي.
ورغم أن الشركات السحابية ليست فقط أمريكية وغربية، إنما هناك شركات يابانية وصينية، إلا أن تلك الشركات ليست أكثر من أداة تطويع بيد حكوماتهم، ولن يكون مصيرها أفضل من المصير الذي لاقته مجموعة “علي بابا”، والتي تبخرت مع مديرها رائد إلهام الشباب بمجال التنمية البشرية، كما أصاب الشركات الأخرى الكثير من الضغوط نتيجة التضخم.
ومن نافلة القول هذا الانهيار لن يمر بسلام، نتيجة تزامنه مع الحرب الأوكرانية الروسية وما أنشأته من تحالفات اقتصادية – عسكرية، تسعّر النار تحت التضخم لينتفخ، حتى باتت المعركة الحقيقية ليست جغرافيا أو سياسة بالمعنى الحرفي، إنما شكل النظام الاقتصادي الذي سوف يحكم، فما هي الشركات التي ستتبخر، وما الدول التي سوف تُسحق لعقود تحت وطأة هذا الصراع ريثما يتشكل النظام الاقتصادي الجديد؟