الكاتب: نيرودا الحسين
لا بد أن نكون قد سمعنا عن مصطلح “بيئة العمل”، بشكل عام بيئة العمل هي المكان الذي يُمارس فيه العمل، وتتم فيه العمليات الإنتاجية، وتشمل العديد من العوامل التي تؤثر في العاملينَ فيها، مثل الأجواء، والتكنولوجيا، والإدارة، والأدوات والمعدات المستخدمة، والتنظيم، وغيرها. بيئة العمل تُعد من أهم العوامل التي تؤثر في الإنتاجية والجودة، وتؤثر على نحو مباشر على رفاهية وصحة وسلامة العاملينَ، وبالتالي من المهم الحرص على توفير بيئة عمل صحية وآمنة ومريحة لتعزيز الإنتاجية والكفاءة ورفاهية العاملين. سوء بيئة العمل يحدث عندما يتعرض العاملون لعوامل ضارة في مكان العمل التي تؤثر سلبا على صحتهم وسلامتهم الجسدية والنفسية، وتشمل هذه العوامل الضوضاء العالية، والإضاءة الضعيفة، والتعرض للمواد الكيميائية الخطرة، ونقص التهوية، وغيرها الكثير.
لكن هناك عوامل أخرى تتعدى الضوضاء ونقص التهوية، عوامل تدفع شركات بأكملها للهجرة، وليس فقط على مستوى الأفراد، من هذه العوامل مثلا، البيئة الاقتصادية والتشريعات الضريبية والقوانين التجارية في البلاد، أو البيئة السياسية التي لا تلزم الشركات بتوجهات سياسية محددة والاستقرار الاجتماعي في الدول المستهدفة للاستثمار.
الصين تُعد من أكبر الأمثلة حول سوء بيئة العمل للشركات، ويعود ذلك إلى النظام السياسي المتّبع فيها، حيث يتولى الحزب “الشيوعي” الحاكم السلطة السياسية والاقتصادية في البلاد، وبما أن الشركات تُعد جزءا من الاقتصاد الصيني، فإن الحزب “الشيوعي” يتدخل في قراراتها لضمان تحقيق أهداف الحكومة والحزب فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية. كما أن هذا النظام السياسي يمنح الحزب “الشيوعي” سلطات واسعة في مجال الرقابة، مما يجعل من السهل عليه التدخل في قرارات الشركات. لكن، لماذا الصين تحديدا التي بدأت تظهر فيها معالم هجرة الشركات منها بشكل جلي، وما هي أهم شركات التكنولوجيا التي غادر سوق الصين، والعقبات الأخرى التي تواجهها شركات التكنولوجيا الأجنبية في الصين.
الصين والهجرة العكسية
حسب شبكة “بلومبيرغ” الأميركية، قامت العديد من الشركات التكنولوجية الأجنبية في نهاية عام 2021 بسحب أعمالها أو تقليصها في بكين، بسبب تطبيق قانون صارم للخصوصية الذي يحدد كيفية جمع وتخزين البيانات من قبل الشركات، وذلك بسبب عدم وضوح التشريعات ومخاطر السمعة التي تفوق مزايا البقاء في هذا السوق الضخم. إضافة إلى ذلك هناك أسباب أخرى دفعت الشركات إلى مغادرة السوق الصينية على سبيل المثال، القيود الاستثمارية والتدقيق الحكومي، ناهيك عن تزايد التكلفة في الإنتاج والعمالة داخل الصين، مما يؤدي إلى تقليص الأرباح وتحويل الإنتاج إلى دول أخرى. القلق بشأن حماية المُلكية الفكرية، حيث يتعرض بعض الشركات لسرقة الملكية الفكرية والتقنيات من قبل شركات صينية تنافسها، علاوة عن الاضطرابات السياسية والاقتصادية في الصين، والتي أثّرت في سير الأعمال وتقليص الثقة بالاستثمار في البلاد.
شركات التكنولوجيا حزمت حقائبها
لدى تفشي فيروس “كوفيد-19” لأول مرة في الصين، وتسبّب سياسة الحزب “الشيوعي” الحاكم بإغلاق المصانع في أوائل عام 2020، إثر ذلك بشكل كبير على خطط المبيعات للعديد من الشركات، بما في ذلك “أبل”، حيث اضطرت إلى خفض توقعات مبيعاتها الفصلية؛ بسبب عدم قدرتها على صنع أجهزة “آيفون”. في هذا السياق، بدأ فريق عمليات الشركة النظر في مواقع التصنيع البديلة التي يمكن استخدامها في حال حدوث إغلاقات مستقبلية في الصين، ووفقا لبعض المصادر فإن فيتنام، التي اختارتها شركة “أبل” لإنتاج سماعات “AirPods” في عام 2020، أصبحت خيارا مثيرا للجدل آنذاك، ومنذ ذلك الحين، بدأت “أبل” في إنتاج ساعاتها في البلاد، ونقلت بعض تصنيع أجهزة “آيباد” هناك.
كما بدأت الشركة تخطط لتجميع وتعبئة جزء صغير منه في الهند لأول مرة، وعلى الرغم من أن معظم الإنتاج الأولي والأكثر أهمية للجهاز يتم في الصين، لكنا قررت نقل بعض من إنتاجها الإجمالي من “آيفون” إلى الهند في وقت لاحق، وذلك لتقييم القدرة على التصنيع المستقبلي هناك شركة “فوكسكون” ، والتي تعد أكبر شركة تصنيع عقود لشركة “أبل”، هي الأخرى وقّعت حينها صفقة بقيمة 300 مليون دولار للتوسع في شمال فيتنام مع مصنع جديد سيولد وظائف لأكثر من 30 ألف موظف، وفقا لوسائل الإعلام الحكومية، وكان الإنفاق الأخير بالإضافة إلى 1.5 مليار دولار قالت الحكومة الفيتنامية إن شركة “فوكسكون” استثمرت بالفعل في البلاد.
شركة “ياهو” أعلنت في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 في بيان رسمي إن خدماتها في الصين توقفت، وسيجد المستخدمون الذين يزورون موقع “Engadget China” الذي تديره “ياهو” إشعارا منبثقا يوضح أن الموقع لن ينشر أي محتوى جديد. في 14 تشرين الأول/أكتوبر 2021، قالت منصة الشبكات المهنية “لينكدإن” التابعة لشركة “مايكروسوفت” إنها أغلقت النسخة الصينية من موقعها، وستستبدلها بلوحة فقط. شركة ” إيبك غيمز”، التي تدير لعبة الفيديو الشهيرة ” فورتنايت”، قامت بإخراج اللعبة من سوق الصين اعتبارا من 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، حيث تم إطلاق اللعبة في الصين من خلال شراكة مع أكبر شركة ألعاب في الصين، “Tencent”، التي تمتلك حصة 40 بالمئة في ” إيبك غيمز”.
حسب صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” الأميركية، أشارت إلى أنه في استطلاع للرأي أجري في حزيران/يونيو الماضي، أفادت غرفة التجارة الأميركية في الصين أن 44 بالمئة من المشاركين قالوا إنهم قللوا أو أخّروا الاستثمار في الصين نتيجة لقيود “كوفيد-19″، وأضاف الاستطلاع أن واحدا من كل 10 قال إذا استمرت القيود لمدة عام آخر، فسيدفعها ذلك إلى نقل عملياتها خارج الصين، أظهر استطلاع آخر نشرته غرفة التجارة التابعة للاتحاد الأوروبي في الصين في ذلك الشهر أن ما يقرب من 1 من كل 4 شركات تفكر في تحويل الاستثمارات الحالية أو المخطط لها إلى مكان آخر بسبب عمليات الإغلاق.
لماذا تغادر الشركات الصين؟
يونس الكريم، الرئيس التنفيذي لمنصة “اقتصادي”، يشرح في حديث خاص لمؤسسة “إكسڤار” الإعلامية، الأسباب التي دفعت شركات التكنولوجيا لمغادرة السوق الصينية بشكل أكثر تفصيلا. بيئة العمل الصينية تقوم على الولاء وبالتالي أي خروج عن هذا الولاء قد يؤدي إلى إنهاء الشركة أو حتى الأفراد، كما حصل مع “جاك ما” الرئيس التنفيذي لشركة “علي بابا” الصينية، وهذا ما دفع العديد من الشركات للشعور بالقلق والخوف على استثماراتها داخل الأراضي الصينية. الكريم أشار إلى أن هناك أسبابا تتعلق بقانون حماية المعلومات الشخصية الذي دخل حيز التنفيذ في 1 تشرين الثاني/نوفمبر، والذي كان له دور كبير في هجرة الشركات، حيث يحدد هذا القانون كمية المعلومات التي يُسمح للشركات بجمعها، ويضع معايير لطريقة تخزينها بحسب منظور الحزب “الشيوعي” الحاكم، وتتطلب الشركات الحصول على موافقة المستخدمين لجمع واستخدام ومشاركة بياناتهم، وكذلك تقديم طرق للمستخدمين لإلغاء الاشتراك في مشاركة البيانات. فضلا عن ذلك، يجب على الشركات الحصول على إذن قبل إرسال “المعلومات الشخصية للمستخدمين إلى الخارج”.
تكاليف الامتثال ترتفع وتزيد حالة عدم اليقين بالنسبة للشركات الغربية العاملة في الصين بسبب القانون الجديد، ويمكن تغريم الشركات التي تنتهك القواعد مبلغا يصل إلى 50 مليون يوان، أي ما يعادل 7.8 مليون دولار أو 5 بالمئة من إيراداتها السنوية.
حكومة بكين اتخذت إجراءات صارمة ضد شركات التكنولوجيا للحد من نفوذها ومعالجة الشكاوى بشأن سوء استخدام البيانات والتدخل في مصالح المستهلكين، وفي المقابل فرضت الولايات المتحدة قيودا على شركات التكنولوجيا الصينية؛ بسبب وجود ارتباطات بالجيش والحكومة الصينية، بما في ذلك شركة “هواوي” لمعدات الاتصالات، وفقا للكريم.
سياسة الحظر والرقابة
حكومة بكين تمارس العديد من الضغوطات على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل عام، فقد تم حظر بعض أشهر مواقع التواصل الاجتماعي في الصين، ومنها “فيسبوك” و”تويتر” من قبل نظام “Great Firewall” في الصين، مما يمنع الأشخاص من الوصول إليها بشكل عام، وفي هذا السياق، شرح الكريم أن هذا النظام، يعد نظام الرقابة على الإنترنت والتصفية الذي تفرضه بكين داخليا للتحكم في حركة المرور على الويب.
مستقبل الشركات في الصين
خلاصة القول، أصبحت الصين بيئة عمل طاردة للشركات التكنولوجية بسبب العديد من العوامل المتراكمة والتحديات التي تواجهها هذه الشركات، ومن بين هذه التحديات، التشريعات المحلية المتزايدة والقيود الحكومية على الحرية الإبداعية والتنظيمية، وتغيرات الاقتصاد الصيني والتوترات التجارية الدولية، وقد أثّرت هذه العوامل بشكل كبير على صناعة التكنولوجيا في الصين، حيث أدت إلى تراجع نمو القطاع وتراجع الاستثمار الأجنبي.
المصدر : إكسڤار ExVar