لطالما كان الخطاب الرسمي السعودي تجاه سوريا، التي شهدت ثورة شعبية عام 2011، ضد نظام بشار الأسد الحاكم، متسقا مع القرارات الأممية الممهدة للحل السياسي المجمد منذ سنوات.
وحديثا، أظهر تقارب السعودية مع نظام الأسد، بعد قطيعة لأكثر من عقد بينهما، وجود رغبة لدى الرياض لتجاوز الحل السياسي بسوريا لتحقيق مكاسب سياسية متماشية مع تحالفاتها الإقليمية الجديدة.
تجاوز الحل السياسي
فقد برزت أولى عناوين الرؤية السعودية تلك، من خلال الاستدارة المفاجئة تجاه دمشق عبر استقبال وزير خارجية نظام الأسد فيصل المقداد في جدة بدعوة رسمية من نظيره السعودي فيصل بن فرحان ولقائهما بتاريخ 12 إبريل/نيسان 2023، في زيارة رسمية لأول مرة منذ 12 عاما.
ووقتها غاب عن بيان اللقاء الختامي بين المقداد وابن فرحان أي ذكر لقرار مجلس الأمن رقم 2254، الصادر عام 2015، وهو الممهد للحل السياسي بسوريا عندما بدأ هذا المسار عام 2012 من خلال بيان جنيف1 ثم أعيد تفعيله من خلال القرار المذكور.
واكتفى البيان المشترك بالإشارة إلى أن المباحثات ناقشت “الجهود المبذولة للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية يحافظ على وحدة سوريا وأمنها واستقرارها وهويتها العربية”.
وكذلك بحث “الخطوات اللازمة لتحقيق تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية تنهي كل تداعياتها، وتحقق المصالحة الوطنية، وتسهم في عودة سوريا إلى محيطها العربي، واستئناف دورها الطبيعي في الوطن العربي”، وفق البيان.
اللافت أن البيان حمل تأكيد كل من السعودية والنظام السوري على “أهمية تعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب بكل أشكاله وتنظيماته، وتعزيز التعاون بشأن مكافحة تهريب المخدرات والاتجار بها”.
فضلا عن “ضرورة دعم مؤسسات الدولة السورية، لبسط سيطرتها على أراضيها لإنهاء وجود الميليشيات المسلحة فيها، والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري”.
كما ورد في البيان مصطلح “المصالحة الوطنية”، والتأكيد على “ضرورة دعم مؤسسات الدولة السورية”، وذلك في إشارة واضحة لقبول الرياض ببقاء نظام الأسد ودعم مؤسساته، وحث المعارضة السورية على “المصالحة” مع النظام وفي هذا نسف للعملية السياسية كما يؤكد مراقبون للشأن السوري.
فقد عطل نظام الأسد على مدى السنوات الماضية، تحقيق أي تقدم في سلال العملية السياسية السورية الأربع، وهي: الحكم الانتقالي، والدستور، والانتخابات، ومكافحة الإرهاب.
وقد اعتراف المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في إحاطاته الصحفية بتعطيل نظام الأسد لتلك العملية عبر اتباع “سياسية المماطلة”.
وردا على ذلك، استنكر سوريون على منصات التواصل الاجتماعي ما ورد في البيان، مؤكدين أن الرياض لم تذكر القرار “2254”، وهذا تراجع لموقفها السابق الذي كان يعبر عن التزامه بالحل السياسي بسوريا وفقا لهذا القرار.
وفي هذا السياق، أكد الائتلاف الوطني السوري المعارض في بيان بتاريخ 13 أبريل 2023، أن “استقبال السعودية لوزير خارجية نظام الأسد، الذي ارتكب آلاف المجازر بحق الشعب السوري، يزيد من تعقيد العملية السياسية”.
وأضاف: “إذ إن نظام الأسد لم ينخرط جديا في أي عملية سياسية متعلقة بالملف السوري، وإنما عمد إلى المماطلة والعرقلة في كل خطوة باتجاه تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بسوريا وعلى رأسها القرار 2254؛ بهدف الوصول إلى لحظة الشرعنة وإعادة التعويم”.
وتابع الائتلاف: “نظام الأسد اعتمد منهج الإجرام والإرهاب في قمع الشعب السوري المطالب بالحرية منذ 12 عاما، وارتكب أفظع الجرائم على مرّ التاريخ باستخدام السلاح الكيماوي على أحياء سكنية والبراميل المتفجرة وعشرات الأسلحة المحرمة دوليا”.
ومضى قائلا: “وهذا يستدعي من الدول العربية ومن المجتمع الدولي العمل الجاد والحقيقي لمحاسبته والضغط عليه بكل الطرق لتطبيق العملية السياسية، وعدم تناسي جرائمه”.
فشل جهود الرياض
والزخم السعودي المتسارع تجاه نظام الأسد لم يقتصر على إنهاء القطيعة معه بزيارة المقداد للمملكة، لكنه كان متبوعا بتحضير الرياض لاجتماع تشاوري في مدينة جدة لدول مجلس التعاون الخليجي، وبمشاركة من الأردن ومصر والعراق.
وذلك لبحث عودة نظام الأسد لشغل مقعد سوريا في الجامعة العربية وحضور النظام القمة العربية المقرر عقدها في 19 مايو/ أيار 2023 في العاصمة السعودية الرياض.
وتمثلت العزلة تجاه نظام الأسد بقرار وزراء الخارجية العرب نهاية عام 2011، بتعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، وسحب أغلب الدول السفراء من دمشق، ردا على قمع ثورة الشعب السوري بالحديد والنار.
لكن اجتماع جدة الذي جرى بتاريخ 15 أبريل فشل في انتزاع موافقة على عودة نظام الأسد إلى الجامعة العربية.
إذ عاد بيان الاجتماع وأكد على أن “الحل السياسي هو الحل الوحيد للأزمة السورية، وأهمية أن يكون هناك دور قيادي عربي في الجهود الرامية لإنهاء الأزمة، ووضع الآليات اللازمة لهذا الدور، وتكثيف التشاور بين الدول العربية بما يكفل نجاح هذه الجهود”.
وقد استبق رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، اجتماع جدة بالتأكيد على أن بلاده لن تتخذ أي “خطوة للتطبيع مع النظام السوري من دون خطوات جادة في مسار الحل السياسي”.
وحول عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية قال رئيس الوزراء القطري وزير الخارجية، خلال لقاء مع تلفزيون قطر الرسمي بتاريخ 13 إبريل: إن “عودته مجرد تكهنات”.
وبالتزامن، نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، عن مسؤولين عرب قولهم، إن خمسة أعضاء على الأقل في جامعة الدول العربية، وهم مصر والمغرب والكويت وقطر واليمن، يرفضون حاليا عودة النظام السوري إلى الجامعة.
وأضافت الصحيفة، في تقرير نشرته بتاريخ 12 أبريل، أن هذه الدول تريد من رئيس النظام السوري بشار الأسد التعامل أولا مع المعارضة السياسية السورية بطريقة تمنح جميع المواطنين صوتا لتقرير مستقبلهم.
وبحسب الصحيفة فقد أكد المسؤولون العرب، أن بشار الأسد حتى الآن لم يُظهر أي اهتمام بالتغيير السياسي.
وذكر المسؤولون العرب أن بعض الدول التي تعارض إعادة قبول النظام السوري ضاعفت من مطالبها، ووضعت شروطا للتطبيع.
من أبرزها أن يقبل بشار الأسد بدخول قوات عربية إلى سوريا لحماية اللاجئين العائدين، ومكافحة عمليات تهريب المخدرات إلى دول الجوار، ومطالبة إيران بالتوقف عن توسيع نفوذها في البلاد.
كما أن لبعض الدول العربية مطالب ثنائية، حيث أكد المسؤولون أن المغرب، على سبيل المثال، تريد من النظام السوري إنهاء دعمه لجبهة البوليساريو الانفصالية، التي تريد استقلال إقليم الصحراء.
وكذلك الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، على الرغم من ارتباطها الوثيق بالسعودية، تعارض أيضا التطبيع الفوري مع النظام السوري بسبب دعمه لمليشيا الحوثي، حيث يوجد للأخيرة ممثلية رسمية في العاصمة دمشق.
“لا بديل عن 2254”
وفي السياق، نشرت هيئة التفاوض السورية المعارضة بيانا بتاريخ 15 أبريل، طالبت فيه “بأن تنص أي مبادرة للتسوية في سوريا على التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي 2254”.
“بما يتيح تحقيق الانتقال السياسي، والعدالة والإفراج عن المعتقلين ومعرفة مصير المغيبين قسرا، وعودة النازحين واللاجئين الكريمة والطوعية إلى مواطن سكنهم الأصلية في ظل بيئة آمنة ومحايدة، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف الأمم المتحدة”.
وعلق الباحث الرئيس في مركز جسور للدراسات، عبد الوهاب عاصي، على اجتماع جدة بالقول: “لن تكون المصالحة الوطنية بديلا عن العملية السياسية كما حاولت إيران تمرير ذلك أمس في بيان الرياض بين وزيري خارجية السعودية والنظام”.
وأضاف عاصي في منشور له على تويتر قائلا: “لن يحضر بشار الأسد قمة الرياض ولن يعود النظام السوري -حاليا على أقل تقدير- إلى الجامعة العربية”.
ومضى يقول: “ولن تكون هناك -حاليا- مبادرة عربية للحل ولا حتى من النافذة الإنسانية، إنما مساعٍ لوضع آليات لدور قيادي عربي في العملية السياسية، لن يكون هناك جهد عربي خاص في حل الأزمة الإنسانية، فقد خلا البيان من أي عبارات تشير للدعم أو التعاون واكتفى بالتأكيد على أهمية حل هذه القضايا”.
ولفت المقداد الذي قام بزيارة رسمية إلى الجزائر التقى خلالها الرئيس عبد المجيد تبون، إلى أن زيارات مسؤولي النظام إلى بعض الدول العربية في الآونة الاخيرة كانت “برغبة مشتركة وتهدف إلى إغلاق صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة في العلاقات بالعالم العربي”.
مناكفات مقصودة
ويرى مراقبون في الشأن السوري أن السعودية أرادت القفز من فوق النقاط المحددة للحل السياسي في سوريا، عبر تحقيق مكاسب في هذا التوقيت مستغلة الجمود الحالي في الحل، وتباعد وجهات النظر في شكله سواء من الدول العربية أو حتى الولايات المتحدة والغرب.
ويرى مدير منصة “اقتصادي” السورية المعارضة يونس الكريم في مقال رأي له نشر على موقعها بتاريخ 16 إبريل، أن “بيان اجتماع جدة يظهر جليا أنه لا عودة للأسد إلى الجامعة العربية ولا لقمة الرياض”.
وأضاف أن السعودية أرادت الضغط على الولايات المتحدة والقول إنها جاهزة للمضي إلى مدى أبعد مما تعتقد واشنطن في خلط الأوراق، في حال بقي موقف الإدارة الأميركية نفسه من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وعدم أخذ مخاطر الأمن القومي للمملكة في الحسبان”.
ورأى الكريم، أن “السعودية تريد الذهاب بعيدا بالضغط على إسرائيل عبر تقوية النفوذ الإيراني في المنطقة التي حاولت تقليل الأهمية الإقليمية للمملكة بالمنطقة، حيث مبادرتها لم تؤكد صراحة على وجود المليشيات المرتبطة بالحرس الثوري، وإنما اكتفت بالإشارة إلى الميلشيات الإرهابية، وهي عبارة فضفاضة”.
وذهب الكريم للقول: “إن السعودية أرادت خلق مبادرة جديدة للقضاء على منصة أستانا وعلى جميع المبادرات التي جرى استثناؤها منها في الشأن السوري خلال السنوات الماضية”.
و”أستانا” مسار عسكري، وله نتائج تفيد في المسار السياسي السوري، يضم الدول الضامنة الثلاث (روسيا تركيا إيران)، ووفدي المعارضة ونظام بشار الأسد.
ويضيف الكريم قائلا: “السعودية ألغت فكرة نقل مفاوضات السياسية السورية من مدينة جنيف التي تسعى لها روسيا وتركيا، بطرح خيار أن تكون في الرياض، مما يجعل عملية نقل من جنيف هو تحدٍ للمملكة والإرادة العربية.
ومضى يقول: وهي عمدت إلى ذلك بأسلوب الضدّ، فلم تشر إلى القرار 2254، وطرحت بديلا عنه مبادرة جديدة تكون الخيار عن نقل مفاوضات وعن سوتشي، ما سيدفع الأمم المتحدة إلى تمسكها بالمبادرة لمنع انهيارها، والمحافظة على قالبها”.
وزاد أن “السعودية تريد التأكيد على أنها الدولة العربية ذات الثقل الإقليمي ولها رؤيتها الخاصة بالحل السياسي في سوريا يجب أن يؤخذ بها، وأن الأسد مجبر على تغيير خطابه تجاهها”.
كما أنها تريد، وفق الكريم، إظهار أنها تستطيع جلب الأسد، شأنها شأن إيران وروسيا، وبما أن الرياض لا تمتلك ميلشيات على الأرض السورية مثل طهران، ولا قواعد عسكرية مثل روسيا، فهي لوحت بـ (العصا والجزرة) أي المال وهو هو مكمن سياسة المملكة الحديثة”.
ويوضح الكريم أن “السعودية لم تضغط على الدول الخليجية والعربية لأجل عودة النظام السوري الذي يحتضر اقتصاديا إلى الجامعة، لأن ذلك سوف يضطرها إلى تنفيذ مشاريع البنى الأساسية بسوريا لأجل تثبيت سلام هش، ما سيكبدها نزيفا ماليا جراء ذلك، فضلا عن علمها أن الغرب سيعمل على مباركة هذا الورطة للسعودية لكسر نفوذها وإجبارها على بيع نفط بأسعار أقل لتأمين السيولة النقدية”.
وخلص إلى القول: “إن السعودية تسعى إلى استخدم الملف السوري كقوة ناعمة حاليا ليس أكثر، لتقول إنها تستطيع تحدي الإرادة الأمريكية”.
تحسين دور السعودية
وضمن هذا السياق ينظر الباحث في مركز “جسور” للدراسات، وائل علوان، إلى أن البيان الختامي لقمة مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق على أنه “يعكس عدم الاتفاق حول عودة نظام الأسد لشغل مقعد سوريا بالجامعة العربية والاختلاف حتى في التعاطي مع هذا النظام”.
وأضاف علوان قائلا: “الرياض تسير في مسار التطبيع مع نظام الأسد ضمن تغيرات إقليمية ودولية وتفاهماتها الجديدة مع إيران بوساطة صينية”.
ومضى يقول: “السعودية ستخطو خطوات في مسار التطبيع مع نظام الأسد وستطور الأمور لفتح القنصليات والسفارات وهي ستبدي مرونة مع الإجماع العربي الذي هو يؤكد على العملية السياسية وتفهما للموقف العربي الآخر الذي يرفص عودة النظام للجامعة لأنه لم يستجب لأي تغييرات مطلوبة منه”.
بدوره رأى مدير مركز القارات الثلاث للدراسات الباحث السوري أحمد الحسن، أن “القرار 2254 هو الخيار الأفضل من وجهة نظر عدد من الدول العربية لحل المشكلة السورية”.
وأضاف الحسن لـ “الاستقلال” قائلا: “لكن الجديد هو العمل على لعبة تبادل الأدوار داخل الجامعة العربية ما بين دول تدعم عودة نظام الأسد إليها، ودول تمنع عودته”.
وزاد بالقول: “السعودية ترى أن إعادة العلاقات مع النظام السوري يحسن دورها كطرف مساهم بالحل، وله علاقات مع النظام والمعارضة معا، وهو موقف جيد أمام إيران التي تمتلك علاقة مع طرف واحد وهو موقف منافس لتركيا التي تسعى لعلاقة مع الطرفين أيضا”.
وختم بالقول: “الخلاصة هي أن السعودية لا تسعى لتسويق النظام وإنما تحسين دورها في الملف السوري عبر مفاوضات مع الأطراف السورية كافة وهذا غير ممكن إلا بوجود علاقة مع النظام مثل ما هي مع المعارضة”.
المقالة منشورة على موقع صحيفة الاستقلال