لم تعد عملية “المصالحة” أو “التسوية” في مناطق سيطرة حكومة النظام السوري، مقتصرة على الشخص الذي يريد تبييض صفحته أمنيا لدى السلطات و”العودة إلى حضن الوطن”، بل أصبحت تسلك مسارا مختلفا يستهدف التجار متوسطي الحال والصغار.
وقبل 3 أسابيع، داهمت دورية أمنية مستودعات للمواد الغذائية يملكها التاجر الخمسيني محمد (فضل عدم ذكر اسمه كاملا) داخل مدينة حمص، وبعد تفتيش استمر لساعتين تخلله استعراض فواتير نظامية وقانونية، أبلغه العناصر أنه ارتكب مخالفة “تتطلب اتخاذ إجراءات”.
واعتقد التاجر في البداية أن “الإجراءات” لن تخرج عن إطار دفع مبلغ مالي وضبط حضوري، خاصة أن “المخالفة تتعلق بـ3 عبوات زيت دوار شمس”، لكنه سرعان ما تفاجأ بوجود أمر بإلقاء القبض عليه.
وحسبما ذكر قريبه ، لا يزال محمد يقبع في السجن منذ تاريخ المداهمة الأمنية، لافتا إلى أن المحامي الذي أوكلوه لمتابعة القضية، أخبرهم بأن عليه “إجراء مصالحة”.
وأوضح قريب التاجر أن “المصالحة التي باتت تتردد على لسان كل التجار ومن جميع الفئات تقوم باختصار على معادلة من طرف واحد، حيث يطلب من أحد أطرافها دفع مبلغ مالي مقابل الإفراج عن الشخص الملقى القبض عليه”.
وفي غالبية الحالات وأقلها سعرا، يفوق المبلغ المراد دفعه حاجز الـ100 مليون ليرة سورية (7 آلاف دولار بسعر السوق الموازي) وتتجاوز أحيانا الرقم المذكور بكثير، كما حالة عبد الغني، الذي ألصقت به تهمة “تعسفية”، بالمتاجرة بالحبوب الأجنبية، وفق قوله .
وأضاف من إحدى القرى التابعة لمدينة حماة، أنه “أُجبر على دفع 250 مليون ليرة سورية بعد اعتقال دام أسبوعين، ودون أن يشمل هذا الرقم الرشاوى التي اضطر إخوته لدفعها لقاء تحريك القضية بشكل سريع”.
“كلمة تمويهية”
وعلى مدى الأعوام الثلاثة الماضية، كانت الأضواء تتسلط على مناطق سيطرةحكومة النظام السوري على طبقة التجار الكبار، وكيف أن “المكتب الاقتصادي” التابع للقصر الجمهوري، بدأ بخطوات ممنهجة للسيطرة على أموالهم.
ولا يعرف كثيرا عن “المكتب الاقتصادي” وهرميته، والذي يعرف أيضا باسم “المكتب السري”.
ومع ذلك، كانت وسائل إعلام محلية وغربية، من بينها “فاينانشال تايمز” قد كشفت أنه يتبع ويحظى بقيادة خالصة من زوجة رئيس النظام السوري، أسماء الأسد، وبرز دوره على نحو أكبر بعد عام 2019.
رامي مخلوف، ابن خالة بشار الأسد، أول من استهدفته زوجة الأخير، وبعدما انتزعت ملكية شركة الاتصالات “سيرياتيل”، اتجهت بالتدريج لتقييد أعمال تجار آخرين لحساب المكتب الذي تديره.
وشيئا فشيئا، أصبحت الدائرة تتوسع لتصل إلى حد فرض “الإتاوات” تحت غطاء قانوني على التجار متوسطي الحال والصغار، كما يقول استشاري اقتصادي ومحامي وصحفيون مطلعون.
الصحفي السوري، كنان وقاف، اعتبر أن “تسمية المصالحة هي كلمة تمويهية لتغطية الفعل الحقيقي، وهو فرض إتاوات على طريقة المافيات”.
وقال : “هي فعليا أن يبقى التاجر في الحجز في فرع الخطيب (فرع أمني) دون أي محاكمة أو توجيه اتهام، لحين دفع المطلوب منه حسب تقديراتهم، والتي ليس لها أي عرف محدد”.
“الأمر كيفي تماما ويخضع لمزاجية شديدة”، حسب الصحفي السوري، الذي أعرب عن اعتقاده أن ما يحصل بحق التجار متوسطي الحالي “خطوة ثانية في تحصيل الأموال بعد القضاء على طبقة التجار الأكبر، حيث نزلوا (السلطات) حاليا إلى الطبقة الأدنى فالأدنى.. وهكذا”.
وأضاف وقاف: “كل ما يجري بحق التجار يأتي بأوامر أسماء الأسد شخصيا، وبعد اطلاعها على أسماء التجار اسما اسما”، مشيرا إلى أنه “لا يتم التحرك لاعتقالهم إلا بأوامرها شخصيا للمكتب السري، الذي يعد لها لائحة بالأسماء مع تفصيل كامل للثروة وقيمة ماهو مفروض عليه”.
“أربعة أهداف”
لا تستهدف المداهمات الأمنية التي تطال التجار فئة دون غيرها، ولا يزال جانب منها يركّز على المعروفين داخل أوساطهم، ومن منطلق حجم التجارة التي يقودونها، وكم القطع الأجنبي الذي يدخل ويخرج.
ورأى الاستشاري الاقتصادي السوري، يونس الكريم، أن ما يحصل هو “استهداف لتجار لديهم سيولة مالية”، مؤكدا أن “4 أهداف تكمن من وراء ذلك”.
أولى الأهداف كما يستعرضها الكريم ، هو أن “المصالحة أو فرض الإتاوات، يعتبر استكمالا للسياسة السابقة والمتدرجة، والتي تستهدف التجار في البلاد بغرض ابتزازهم، وهو ما حصل لأكثر من تاجر، حتى وصل الأمر إلى فئة متوسطي الحال والصغار”.
وأضاف أن الهدف الثاني هو أن “النظام يحاول سحب السيولة من السوق، في خطوة من شأنها أن تخفّض التضخم، لا سيما أن المبالغ التي يتم دفعها وسحبها كبيرة”.
وتعطي الحملات الأمنية الحالية والمتواصلة مؤشرا على “استمرار عمل المكتب السري لكن تحت مسميات أخرى”، في مسعى لضبط إيقاع المشهد الاقتصادي لصالح السلطة، وفق الكريم.
ويتحدث عن هدف رابع بأن النظام “يحاول الضغط على التجار للبقاء على علاقة معه من جانب، ولمعرفة حجم نشاطاتهم من جانب آخر”.
“لا أساس قانوني”
ونادرا ما يعلّق النظام السوري وبشكل رسمي على الحملات التي تقودها سلطاته ضد التجار، إن كانوا على المستوى الكبير أو المتوسط والصغير.
لكن في بعض الحالات، أشارت وسائل إعلام مقربة منه،من بينها صحيفة “الوطن”، أن “رئاسة الجمهورية أصدرت توجيهات صارمة لفرض سلطة القانون والملاحقة القضائية وتحصيل الغرامات المالية لمصلحة خزينة الدولة”.
وأضافت أن التوجيهات خصّت “تجار كبار”، وأن الهدف يرتبط بمحاولة “السيطرة على سعر صرف الليرة السورية”.
ونوه الصحفي وقاف بأن “المكتب السري هو الذي يصدر الأوامر لضباط فرع الخطيب، والذي يقتصر عمله حاليا على وضع التاجر في السجن حتى يدفع ويخرج”.
ولو كان لا يملك المال الكافي تتم مفاوضته على أملاكه الثابتة (مثل المصنع أو البيت أو سيارات أو أراضي)، و”يكونون هم من يشترون بالسعر الذي يريدونه، وغالبا ما يكون أقل من سعر السوقي الحقيقي”، وفق وقاف.
وتابع: “لا يُعطى التاجر بعد دفع المال أية وثيقة تثبت دفعه”.
وبدوره، أوضح المحامي السوري، غزوان قرنفل، أن “ما يحصل لا علاقة له بأساس قانوني”.
وقال : “في حال أن الشخص لديه بضاعة غير قانونية ودخلت بشكل غير قانوني، يمكن ضبطها وتحريزها، وتنظيم ضبط وإحالته للجهة القضائية المختصة”.
وبعد ذلك وبشكل قانوني يتم فرض العقوبات اللازمة سواء الحبس أو دفع الغرامات المالية التي يفترض أن يدفعها.
لكن المحامي السوري شكك في “نوايا النظام”، ورأى أن “المداهمات الحاصلة تتم خارج نطاق القانون ودون إذن قضائي”، وأن “الأمر أشبه بعمل مافيات لا تقيم أي وزنا للقانون”.
وتابع: “هو عمل مافيوي ويعطي مؤشرا على أن السلطة لديها جوع للمال”.
“صراع أطراف”
وتعاني سوريا من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ألقت بظلالها مؤخرا على سعر صرف الليرة في سوق العملات الأجنبية.
يضاف إلى ذلك، ارتفاع معدلات التضخم بأشواط كبيرة، وهو الأمر الذي انعكس على طبيعة الحياة اليومية للمواطنين وعلى التجار أيضا، الذين فضلوا الاستمرار بتجارتهم داخل المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة النظام السوري.
وما زال النظام السوري يجّرم كل من يتعامل بالدولار، وكان رئيسه قد أصدر قبل أسابيع مرسومين أكدا على العقوبة من جانب وفتح باب “إجراء التسوية” من جانب آخر.
وأتاح المرسوم الذي حمل الرقم 5 للمدعى عليهم، بالتعامل بغير الليرة السورية للتسوية أمام القضاء لتسقط عنهم عقوبة السجن التي قد تصل في بعض الحالات إلى أكثر من 7 سنوات.
وأشارت وكالة “سانا” إلى أن “تلك التسوية تجري أمام المرجع القضائي الناظر في الدعوى”، وأن “المبلغ يحدد بما يساوي قيمة المدفوعات والمبالغ المتعامل بها، المضبوطة والمدونة في القيود الورقية والإلكترونية”.
وتذهب المبالغ الناجمة عن التسوية إلى خزينة الدولة، وتسقط الدعوى العامة بحق المتعامل ويعفى من التعويض المدني، وفق وكالة الأنباء السورية.
وفي هذا الصدد، أشار الصحفي الاقتصادي السوري، مختار الإبراهيم، إلى أن حملات أمنية استهدفت خلال الفترة الأخيرة تجارا في سوق الصاغة بدمشق، وأسفرت عن اعتقال البعض منهم.
وبعد ذلك أفرج عنهم إثر دفع مبالغ مالية باهظة، تحت بند “التسوية أو المصالحة”.
الإبراهيم رأى من جانب آخر في حديثه، أن حالة استهداف التجار متوسطي الحال والصغار “قد تكون مرتبطة أيضا بصراع الأطراف”، وأنهم دائما ما يكونون الضحية.
وأوضح بالقول: “كمثال على ذلك، مسؤول يريد الانتقام من مسؤول آخر فيكون الضحية من هم في السوق، من تجار الطبقة الوسطى وكبار التجار التابعين للرؤوس الكبار”.
ولا يستعبد الصحفي أن تكون المداهمات و”الإتاوات” محاولة لجبابة الأموال، و”قص أجنحة مسؤولين وتجار يتبعون لهم”، على حد تعبيره.
ولا تعرف الجهة التي تُصب فيها المبالغ المتعلقة بـ”المخالفات والجبابة”، كما أشار المحامي السوري قرنفل.
واستطرد: “عندما تفرض الغرامات وبموجب حكم قضائي، المفروض أن تدخل صندوق المالية ومن ثم إلى مصارف أخرى موثقة بشكل قانوني ولمؤسسات الدولة المختصة. لكن حتى الآن لا يُعرف أين تصل الأموال؟ ولجيب من؟”.
المقالة منشورة على موقع الحرة