اقتصادي – خاص:
في بلدان العالم الثالث يحتدم صراع التناقضات، ففي حين أن مؤشرات انعدام الأمن الغذائي تتصدر الصحف والأخبار والتي تعزي التراجع الحاد في هذه المؤشرات إلى قلة المياه ، بينما مؤشرات تصدير السلع الزراعية تتصدر مؤشراتها اقتصاداتها ورغم أنها لا تحقق نقلة نوعية بتأمين القطع الأجنبي لتغطية احتياجاتها من المستوردات، لكنها تستمر بتصدير السلع الزراعية على حساب توفيرها لأبنائها بحجة أنها أحد المصادر الرئيسية للقطع الأجنبي !.
وبالمقابل تكثر أخبار أن المياه سوف تكون أغلى من النفط وهي تجارة المستقبل، وأن الحروب سوف تقام لأجل المياه!
هنا تبدأ المقاربات لاقتصاد المياه عبر تحليلات الصحف، هل سيتم نقل المياه عبر أنابيب تشبه أنابيب الغاز؟ أم عن طريق السفن ؟
كل هذا دون أن ترسم هذه الصحف مقاربة حقيقية أن دولها باتت بعين الحرب وأن عملية نهب المياه تتم بشكل شرعي ومباركة من حكوماتهم والدفاع عن هذا النهب وإعطاء القوى المتعدية كل الدعم المادي والتسهيلات !، وان عملية النهب لا تقتصر على غض البصر عن التعديات على الحصص المائية للأنهار وإقامة السدود .
اذاً إن عملية النهب تتم بشكل دوري من دول العالم الثالث نحو الدول الغنية، عبر تصدير الخضروات والفواكه المستنزفة للمياه، سواء من دول شمال إفريقيا وآسيا وأمربكا الجنوبية وغيرها نحو دول الغنية كأوروبا والخليج وأمريكا، الأفوكادو يسلك طريق آمن من أمريكا الجنوبية الى الدول الغنية ، والخضروات والبطيخ
من المغرب نحو أوروبا، والخضروات والفواكه من دول العربية على الحوض المتوسط الى الخليج واوروبا .
سابقاً كانت هذه التجارة تقوم على جمع المحاصيل من المزارعين مما يجعل المزارع يتنعم بجزء من المحاصيل الى جانب ثمن ما يبيعه ، لكن اليوم تقام مزارع كبيرة تديرها شركات مدعومة من الدول الغنية من أجل تصديرها لهم، فيتحول المزارع الى مجرد عامل بأجر، فلا يحصل على جزء من المحاصيل ولا يتنعم بثمن ما تنتجه الأرض، وعملية الإنتاج هذه تعني بشكل آخر سيطرة شركات وأفراد على مصادر المياه (وحتى المحروقات ) مقابل ندرة لمياه الشرب والزراعة المعاشية لباقي مواطني الدول الفقيرة لأجل رفاهية دول العالم الغنية ، بدلا من تخصيص المياه لأجل زراعة مستدامة لتأمين أمن غذائي حقيقي للدول الفقيرة تنهض بمواطنيها عبر الاستخدام الأنسب للمياه ومن ثم التفكير بالتصدير للفائض من السلع.
فلم يعد الخيار الآن بيد الدول، من حيث زراعة أنواع محددة من الخضروات والفواكه بل إلزامياً مثل حرب الأفوكادو الشهيرة، وحرب البطيخ بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية والفواكه بين تركيا و شمال افريقيا وغيرها .
فالمياه التي تستخدم بالزراعة تسمى بالمياه الافتراضية، وهي نظرية أو فرضية طرحها البروفيسور جون أنتوني من كلية “كينجز لندن” و”مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية” حيث اقترح تقليل غرس النباتات المستهلكة للمياه مع غرس النباتات المعاشية المتحملة للجفاف (الزراعة المستدامة)، ويعتقد على سبيل المثال أن 1 كيلو غرام من البطيخ الأحمر المغروس بالصحراء يستهلك 45 لتر من الماء في حالة الاعتماد على تقنية التقطير، وهذا يعني أن بطيخة بوزن 10 كيلوغرام قد تستهلك 450 لتر من الماء العذب.
ومع احتواء كل بطيخة على 80% من وزنها مياه، فتصدير البطيخ يعني انتقال المياه بكل 10 كغ بطيخ مصدرة للخارج كمية تعادل 8 كغ من المياه الجوفية غير المتجددة، والأمر لا يقتصر فقط على البطيخ، فقد أشارت “منظمة الأغذية والزراعة العالمية” إلى أن كل ما يلزم لإنتاج حبة بطاطس واحدة 25 لتراً من المياه، وشريحة خبز 40 لتراً، وتفاحة 70 لتراً، وكوب قهوة 140 لتراً، وكيس من الرقائق 185 لتراً، وقطعة هامبرجر 2400 لتر.
والأمر كأي حرب لم يقتصر فقط على تصدير الخضروات والفواكه على اعتبارها أحد أساليب السيطرة على المياه، بل اتبعت هذه الدول أسلوب اكثر حرية بإدارة واستخدام مياه دول اخرى بما يسمى استئجار الأراضي الغنية الخصبة للزراعة في البلدان الفقيرة، في إطار مناقشة أوجه التمييز في مجال الحق في الغذاء.
وهي ظاهرة لم يتردد الخبير السويسري جون زيجلر في وصفها بـ “سرقة الأراضي” فيما اعتبرها المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة نوعا من “الاستعمار الجديد”، حيث شددت “منظمة الاغذية والزراعة العالمية” على أن كمية المياه العذبة المتاحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انخفضت بنسبة 60٪ في الأربعين سنة الماضية.
وينتشر هذا النوع عادة في البلدان الخارجة من كوارث وحروب، حيث تحتاج الدول إلى دعم مالي لبرامجها فتقبل هذا النوع من التأجير، كما يحدث بلبنان و السودان وأثيوبيا وكينيا وغيرها من الدول .
أما سوريا فليست استثناء من ذلك!
إذ أن عقود كثيرة تم توقيعها مع الايرانيين والروس لاستثمار الأراضي على ضفاف الفرات بمقدار ٥ الاف هكتار، إضافة إلى ثاني أكبر مبقرة، وفي الساحل السوري كذلك الإماراتيين الآن ينتهجون الأمر ذاته.
ومن المعروف أن اقتصار الأمر على زراعة أصناف معينة وتصديرها لدول محددة، إنما يعني الارتهان لهذه الدول كما يحدث بالفواكه السورية والخضروات التي تعتمد على الخليج العربي.
إن قضية الزراعة ومصير المياه لبلد مثل سوريا، الذي يعتبر من البلدان الفقيرة مائيا، يعد من القضايا الهامة لإطلاق السلام، وخاصة أن تتم بمباركة نظام الأسد وتعهد أمراء الحرب بحماية هذه الاستثمارات … دون ان ننسى التعديات على حصص سوريا المائية والتبذير الناتج عن سواء استخدامها بالزراعة والبناء، خاصة أنها لم تضع بعد عملية إطلاق اعادة اعمار شاملة، والتي يعتبر تامين هذه السلعة تحدياً لنجاح انطلاقها.