الرئيسية » لماذا لم تحدث الثورة الصناعية في الصين!

لماذا لم تحدث الثورة الصناعية في الصين!

بواسطة Nour sy

اقتصادي – خاص:
بقلم: محمود قاسم عبد الله

من القضايا المثيرة للاهتمام لطلاب التاريخ الصيني والتاريخ الاقتصادي المقارن هي لماذا لم تحدث الثورة الصناعية في الصين في القرن الرابع عشر؟
في ذلك الوقت كانت العناصر لنشوء الثورة الصناعية متوفرة.

نشأت الحضارة الصينية مثل حضارات بلاد ما بين النهرين ومصر والهند من الزراعة. تم تشكيل أول إمبراطورية موحدة في عام 221 قبل الميلاد و بحلول عام 300 قبل الميلاد تطور المجتمع الصيني إلى شكل له العديد من خصائص اقتصاد السوق مع ملكية معظم الأراضي للقطاع الخاص وحرية تنقل العمالة إلى حد ما.

كانت إنجازات الصين ما قبل الحداثة في العلوم والتكنولوجيا أكثر بروزًا سيما ادوات الزراعة المتطورة نسبيا. اذ تم اختراع البارود والبوصلة المغناطيسية والورق والطباعة والتي اعتبرها فرانسيس بيكون كأهم اربعة اختراعات تسهل تحول الغرب من العصور المظلمة إلى العالم الحديث.

قدر إجمالي إنتاج الحديد بنحو 150 ألف طن في أواخر القرن الحادي عشر مايعادل ستة أضعاف الناتج الأوروبي إضافةً إلى التقدم العالي في صناعة النسيج.
سهلت الزراعة والصناعة المتقدمة التطور المبكر للتجارة والتحضر. بالنسبة للصين كان الغرب زراعيًا فقيرا ومتخلفًا الى حد تاريخ ما قبل الحداثة لكنها لم تتخذ الخطوة التالية لذلك عندما تسارع التقدم في الغرب بعد القرن السابع عشر بدأت الصين تتأخر أكثر فأكثر.

اقترح العديد من الفرضيات لعدم حدوث الثورة الصناعية في الصين من قبل علماء بارزين: منها القائمة على فشل الطلب على التكنولوجيا، فشل توريدها، فشل العرض، أو العوامل التي تعوق التطور التكنولوجي.

كانت الفرضية الأكثر قبولا لعدم حصول ثورة صناعية محلية في الصين رغم ثروتها واستقرارها وانجازها العلمي هي “مخطط التوازن عالي المستوى”، الذي اقترحه لأول مرة مارك الفين وفكرته ( ان اقتصاد الصين ما قبل الحداثة قد وصل إلى نقطة توازن بين العرض والطلب) اذ كانت العمالة رخيصة ومتوفرة وأن الاستثمار في رأس المال لتحسين الكفاءة لن يكون مربحًا.

في الوقت نفسه، أدى التحول الفكري النموذجي من الطاوية إلى الكونفوشيوسية بين المثقفين إلى تحول تركيز البحث الأكاديمي من العلوم الطبيعية والرياضيات إلى دراسات الفلسفة الاجتماعية و الأخلاق. أنتج هذا مناخًا فكريًا لم يكن مواتًا للابتكار التقني! (ممكن ان تعتبر هذه نقطة مهمة عندما يُأخذ الجانب الفلسفي والروحي وقتا اكثر من الناس بدلا من العلوم الطبيعية التجريبية التي تعتبر اساس تطور الصناعة والتكنلوجيا).

بالمقارنة، كان اقتصاد بريطانيا العظمى في وقت الثورة الصناعية أصغر وأقل كفاءة و العمالة أكثر تكلفة والتجارة الداخلية أقل كفاءة مما كانت عليه في الصين. أدى ذلك إلى اختلالات كبيرة في قوى العرض والطلب، ثم الى مشاكل اقتصادية وفرت حافزًا ماليًا كبيرًا لإحداث تطورات علمية وهندسية مصممة لمعالجتها. في الوقت نفسه حول عصر التنوير تركيز البحث الأكاديمي نحو العلوم الطبيعية ما ادى لنشوء الابتكارات التقنية.

من جانب اخر كان شَجّعَ هوس الأسرة الصينية بالورثة الذكور لتمديد نسب الأسرة على الزواج المبكر َالخصوبة العالية على الرغم من تدهور الظروف الاقتصادية مما أدى إلى التوسع السريع في عدد السكان رغم انحسار الأراضي المزروعة ( ممكن اعتبار هذا السبب موجود لحد الان في الشرق الاوسط و العراق تحديدا يقابله تباطؤ في النمو الاقتصادي)
لذلك انخفض الطلب على التكنولوجيا الموفرة للعمالة بسبب وفرتها.

على العكس من ذلك ، تمتعت أوروبا بنسبة جيدة بين الإنسان والأرض وفائض من الإمكانيات الاقتصادية بسبب نظامها الإقطاعي الوراثي.

ان الافتراض المركزي الضمني في الفرضية المذكورة أعلاه هو إمكانية محدودة للزراعة في فترة ما قبل الحداثة.
لكن إمكانات الزراعة في اي عصر هي وظيفة من وظائف التكنولوجيا، إذ لم يتم إعاقة تطويرها.
لذلك لم يكن ارتفاع الاختراعات بسبب انخفاض نسبة الإنسان إلى الأرض كما إدعى تشاو، اذ كان نصيب الفرد من المساحة في نهاية القرن الرابع ومنتصف السابع عشر أعلى بحوالي 50٪ مما كان في نهاية القرن الحادي عشر. اذا فمن المفترض أن يكون معدل الاختراعات أعلى في القرن الرابع عشر ومنتصف السابع عشر وهو مالم يحصل.

وحتى لو أخذنا النسبة أوائل القرن العشرين، فبسبب انتشار المحاصيل المزدوجة كان هناك نقص كبير في اليد العاملة دائمًا خلال موسم الذروة.

السكان والعلوم والاختراع

بالنظر إلى مجموعة المدخلات يجب أن يجلب الابتكار التكنولوجي زيادة في المخرجات. لذلك فالطلب على تقنيات أكثر فعالية من حيث التكلفة موجود دائمًا.

لمعالجة أحجية نيدام، نحتاج بالتالي إلى تحويل انتباهنا إلى جانب العرض من التكنولوجيا…
إن ما يميز الثورة الصناعية حقًا عن عهود أخرى في تاريخ البشرية هو معدلاتها المتسارعة للابتكار التكنولوجي، فالسؤال هو : لماذا لم تتسارع سرعة الابتكار التكنولوجي بعد القرن الرابع عشر؟

ان الفرضية التي أقترحها الباحث هي تفسير محتمل لأحجية نيدام وكما يلي: في عصور ما قبل الحداثة، ينبع الاختراع التكنولوجي أساسًا من التجربة بينما في العصر الحديث ينتج بشكل أساسي من التجربة مع العلم. كان للصين الريادة المبكرة في التكنولوجيا لأنه في عملية الاختراع التكنولوجي القائمة على الخبرة يعد حجم السكان محددًا مهمًا لمعدل الاختراع.

تراجعت الصين عن الغرب في العصر الحديث لأن الصينيين لم ينتقلوا من عملية الاختراع القائمة على الخبرة إلى التجربة القائمة على العلم بينما فعلت أوروبا ذلك. لدعم الفرضية المذكورة أعلاه سأقدم أولاً نموذجًا بسيطًا للاختراع التكنولوجي.

نموذج الاختراع التكنولوجي

تعني التكنولوجيا الأفضل واحدة ذات إنتاجية أعلى ويأتي توفيرها من النشاط الابتكاري العلمي، والذي يمكن وصفه بأنه “تجربة وخطأ” يقوم به المخترعون. تنتج كل تجربة تقنية بمستوى إنتاجي معين والذي يتم تمثيله كنقطة تحت منحنى توزيع الاختراع (صورة 2-A ).
وبالتالي يمكن اعتبار التجربة بمثابة سحب عشوائي من توزيع الاختراع فإذا أدى السحب إلى تقنية ذات إنتاجية أعلى من التكنولوجيا الحالية يتم اختراع تقنية أفضل ، وبمجرد اختراع تقنية أفضل يتم تبنيها من قبل الاقتصاد بأكمله.
تؤدي الزيادة في مخزون المعرفة العلمية للمخترع إلى زيادة متوسط دالة توزيع اختراعه كما هو موضح في الصورة 2 B باعتباره منحنى تحول إلى اليمين. لذلك مع وجود مستوى تكنولوجي معين في الاقتصاد تؤدي زيادة المعرفة العلمية للمخترع إلى تحسين احتمالية اختراعه لتقنية أفضل.

تُستخدم المعرفة التكنولوجية مباشرة لإنتاج المخرجات بينما تُستخدم المعرفة العلمية لاشتقاق فرضيات قابلة للاختبار حول خصائص العالم المادي والتي قد تسهل إنتاج التكنولوجيا ونظرًا لأنه يجب اكتساب المعرفة العلمية قبل أن تؤثر على نتيجة الاختراع فهناك فارق زمني بين التقدم في العلم والتقدم في التكنولوجيا ومخرجاتها العملية.

يمكن اكتشاف التكنولوجيا الجديدة من قبل مزارع مخضرم أو حرفي نتيجة عمل عرضي، في حين أن التقدم العلمي يتم من قبل العلماء باتباع منهج علمي صارم تعتمد على رياضيات الفرضيات المتعلقة بالطبيعة مع التجارب المستمرة، لذلك عندما يقوم المزارع او الحرفي بتجربة واحدة في حياته يقوم المخترع بإجراء العديد من التجارب في سنة واحدة بالتالي يكون معدل الابتكار عشرات او مئات الاضعاف في العصر الحديث وهو نتيجة للتحول في طريقة الاختراع التكنولوجي القائم على المردود الاقتصادي من الابتكار.

لذلك ولغاية القرن الرابع عشر كان تفوق الصين بسبب عدد سكانها العالي ما مكنها من انتاج ابتكارات اكبر من اوربا، ولكن حين تغير نمط الابتكار في اوربا تسارعت الابتكارات رغم قلة سكانها مقارنة بالصين لاعتمادها على المنهج التجريبي “التجربة والخطأ” والتكامل الوثيق بين العلم والتكنولوجيا ما جعل عامل عدد السكان طفيفا.

كما هو الحال في أي مجتمع، كان العلم والتكنولوجيا في أوروبا في البداية منفصلين ومتميزين: اذ كان يُنظر للعلم على أنه فلسفة بينما كانت التكنولوجيا هي ممارسة الحرفيين. لم يكن للعلماء أي اهتمام أو ميل نحو الشؤون التكنولوجية، حتى جاء وقت غاليليو فظهر للعلوم المعنية بالتكنولوجيا النفعية متحدثين قادرين على جذب الانتباه وكسب الاحترام.

لماذا لم تحدث ثورة علمية في الصين؟

في العصور القديمة، أجرى الصينيون تجارب منهجية أكثر من تلك التي قام بها اليونانيون أو الأوروبيون في العصور الوسطى. لذا فإن السؤال إذن هو لماذا العديد من الموهوبين من السكان الصينيين الكبير مع مزايا الإنجاز المبكر المتفوق لم يجعلوا الانتقال إلى المنهجية الجديدة في القرون من الرابع عشر إلى الثامن عشر. يكمن مفتاح هذه المشكلة في عوامل مختلفة حالت دون نمو العلم الحديث في الصين وهي كالتالي.

قام نيدام بتفسير ذلك: انه كان للصين “نظام بيروقراطي” نشأ من الحاجة إلى الحفاظ على مجموعة واسعة من أنظمة الري بينما كان لدى أوروبا “إقطاعية أرستقراطية” والتي كانت أكثر ملاءمة نسبيًا لظهور طبقة تجارية وعندما مات الارستقراطيين ولدت الرأسمالية والعلم الحديث.

كان النظام البيروقراطي في الصين في البداية مناسبًا لنمو العلم. ومع ذلك فقد حال دون ظهور القيم التجارية وبالتالي لم يكن قادرًا على دمج تقنيات الحرفي مع أساليب التفكير المنطقي والرياضي الذي عمل عليه العلماء و بذلك لم يتحقق تطور العلوم الطبيعية الحديثة.

وعلى نفس المنوال، على الرغم من اختلاف التركيز يجادل ون يوان تشيان وآخرون بأن التوحيد الإمبراطوري والأيديولوجي للصين هو الذي يحظر نمو العلم الحديث فمن وجهة نظرهم كان التعصب شائعًا في جميع المجتمعات ما قبل الحداثة.
بينما كانت في أوروبا منافسات مثلا بين الكنيسة والدولة مما جعل مقاومة الأفكار الأساسية الجديدة أقل فعالية. لذلك خلقت المجموعة الأوروبية المكونة من دول مستقلة إلى حد ما ظروفًا مواتية للتطور العلمي.

من ناحية أخرى كان يحكم الصين نظام أيديولوجي تدعمه سلطة سياسية مطلقة ولم يُسمح بأي نزاع عام حقيقي، فكانت الموانع (السياسية – الأيديولوجية) تمنع الصين من تقديم مساهمات مباشرة في الأسس المنهجية للعلم الحديث.

أتفق مع نيدام و تشيان وآخرين في أن فشل الصين في الانتقال من العلوم ما قبل الحداثة إلى العلم الحديث ربما كان له علاقة بالنظام الاجتماعي والسياسي في الصين. ومع ذلك فإن مفتاح السؤال لا يكمن في أن هذا النظام يحظر الإبداع الفكري كما جادلوا بل بالأحرى في أن هيكل الحوافز للنظام قد حوّل المثقفين بعيدًا عن المساعي العلمية خاصةً عن رياضيات الفرضيات حول التجارب الطبيعية والرقابة.

إذ كان لدى الموهوبين في الصين القديمة حوافز أقل من معاصريهم الغربيين للحصول على رأس المال البشري المطلوب للبحث العلمي الحديث. فكانت الخدمة الحكومية هي الأكثر تكريمًا وقيمة في الصين فإعتبر المجتمع الصيني التقليدي الدخول إلى البيروقراطية الحاكمة الهدف النهائي للحراك الاجتماعي الصاعد. فكان الموهوبون ينجذبون إلى هذه الوظائف بسبب الحوافز الكبيرة لاستثمار وقتهم ومواردهم في تجميع رأس المال البشري المطلوب لاجتياز الاختبارات مثل كلاسيكيات الكونفوشيوسية بإجمالي 431286 حرفًا والتي تتطلب 6 سنوات من الحفظ! وبعد حفظها يطُلب مسح الأعمال الفلسفية والتاريخية والأدبية الأخرى بعناية والتي كانت ضرورية كأساس لكتابة القصائد والمقالات في الاختبارات.

فلم يكن لديهم الحافز لتكريس الوقت والموارد قبل اجتياز الامتحان لرأس المال البشري المطلوب للبحث العلمي. علاوة على ذلك بمجرد اجتيازهم للامتحانات سيكونون منشغلين بمطالب الموظفين الرسميين وبتسلق السلم الرسمي ونتيجة لذلك كان عدد الموهوبين الصينيون اقل من الاوربيون بسبب نظام الحوافز الذي أنشأه الشكل المحدد لامتحانات الخدمة المدنية والشؤون الرسمية.

ملاحظات ختامية

سبب فشل الصين في إحداث ثورة علمية أسبته هنا إلى محتويات امتحانات الخدمة المدنية ومعايير الترقية التي صرفت انتباه المثقفين عن استثمار رأس المال البشري اللازم للبحث العلمي الحديث. لذلك تقلصت احتمالية الانتقال من العلم البدائي إلى العلم الحديث.

لا يزال الاختراع القائم على التجربة مصدرًا مهمًا للتغيير التكنولوجي في العصر الحديث خاصة فيما يتعلق بالتعديلات الطفيفة للتكنولوجيا الحالية. ومع ذلك إذا كان هذا العدد الكبير من السكان غير مجهز برأس المال البشري المكتسب الضروري لإجراء بحث وتجربة علمية حديثة فإن احتمال مساهمة اختراع تكنولوجي حديث في الاقتصاد ضئيل.
بالنسبة لدولة نامية في العصر الحديث يمكن بالتأكيد استيراد العديد من التقنيات من البلدان المتقدمة بتكلفة أقل بكثير من تكلفة اختراعها بشكل مستقل ومع ذلك فقد وجدت العديد من الدراسات التجريبية أن نجاح أو فشل عمليات نقل التكنولوجيا يعتمد بشكل حاسم على القدرة المحلية في متابعة الابتكارات والتكيف مع التكنولوجيا المستوردة والتي تعتمد بدورها على قدرة البحث العلمي المحلية.

واختم هنا ان الاهم من حجم السكان هو التعليم مع التركيز على المناهج الحديثة.

اترك تعليق

مقالات ذات صلة